[أقسام المياه وأحكامها]
من مجموع الأحاديث نأتي إلى تقسيم الماء من حيث المجمع عليه والمختلف فيه، فنجد طرفين ووسطاً: الطرف الأول: الماء الكثير وهو: الطهور الذي لم يتغير بنجاسة، وهو طهور بالإجماع ولا نزاع فيه.
الطرف الثاني: الماء القليل أو الكثير إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه، فهذا نجس لا يستعمل بالإجماع.
إذاً: عندنا ماء كثير لم تتغير أوصافه وهو باق على طبيعته، ولم يتغير منه شيء مع الكثرة، فهو طاهر، وماء آخر كثير أو قليل تغير بالنجاسة فهو نجس.
بقي الوسط وهو محل النزاع والخلاف عند الأئمة رحمهم الله، وهو الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره؛ لأنها إذا غيرته التحق بالقسم الثاني الذي هو نجس بالإجماع، لكنه قليل ولم تغيره النجاسة، بأن كانت قليلة نادرة، مثل إناء من ماء وقعت فيه خمس عشرة قطرة من البول، وهذه قطعاً نجاسة وقعت في هذا الماء ولم تغير أحد أوصافه، فما حكمه؟ هذا هو محل الإشكال عند العلماء، وكل ما سيمر بنا من خلاف في مباحث المياه فإنما هو في هذا القسم الوسط.
إذاً: الماء على ثلاثة أقسام من حيث الطهورية والنجاسة: إن كان كثيراً -وسنذكر حد الكثرة من القلة- ولم تتغير أوصافه بنجاسة فهو طهور بالإجماع، (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وإن تغيّر بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو نجس، حتى لو كانت عندنا بحيرة طولها كيلو في كيلو، وعمقها كيلو، وتسلطت عليها مياه المجاري حتى غيّرت ماءها، فهو ماء كثير تغير فهو نجس.
إذاً: القسم الأول: طهور؛ وهو الكثير الذي لم تؤثر فيه النجاسة بشيء.
القسم الثاني: غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة، فمهما كانت كثرته ومهما كانت قلته؛ فهو نجس.
والوسط وهو القسم الثالث: ماء قليل لاقته النجاسة ولم تغيره.
إذا جئنا إلى الحديث الأول: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وحملناه على القليل لوجدنا منطوق هذا الحديث أنه ما لم تتغير أوصافه فهو طهور على هذا النص، إذاً: لم نحمله على الكثير؛ لأن النجاسة قليلة ولم تغيره، وهو تغلب عليها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: الماء إذا لم تتغير أحد أوصافه بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو طهور، وقال الأئمة الثلاثة: إذا كان الماء قليلاً ولم تغيره النجاسة؛ فإن النجاسة موجودة فيه، وقلته لا تحتمل النجاسة، لحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: فما دون القلتين يحمل الخبث.
وقد مهدنا للأحاديث الآتية بهذا التقسيم الثلاثي حتى نطبق عليه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله تباعاً؛ لأنها كلها تشكل موضوعاً واحداً.
نعيد مرة أخرى: الماء بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور بالإجماع، وهو الكثير الذي لم تتغير أحد أوصافه.
ونجس بالإجماع، وهو المتغير أحد أوصافه بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً.
والقسم الوسط وهو محل النظر والاجتهاد والخلاف، وهو الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّره، فمذهب مالك، ورواية عن أحمد وبعض آل البيت أن الأصل في الماء الطهورية، وإنما النجاسة تؤثر فيه إذا تغير أحد أوصافه؛ لحديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فأخذ مالك بالعموم، وعنده ما دام أن الماء لم تتغير أوصافه فهو طهور ولو كان قليلاً، لهذا الحديث.
وقال الجمهور والأئمة الثلاثة: نحن نقيد المطلق بالقيد الذي جاء بعده: بنجاسة تحدث فيه.
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد.
] .
نحن لا نناقش الطرفين المجمع عليهما، فالطرف المجمع على أنه طهور ليس لنا حاجة في نقاشه، والطرف المجمع على أنه نجس لا يوجد مجال للمناقشة، والمناقشة كلها في الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّر أحد أوصافه، فالأصل فيه أنه طهور لا ينجسه شيء، وبهذا أخذ مالك، والأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا، ولكن قيدوا هذا المطلق بالقيد الآتي بعده.