شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال.
فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله] .
أتى المؤلف رحمه الله بهذا الخبر، وماذا فيه من زيادة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر يقول: تراءى الناس، ورأيت، وأخبرت، فصاموا، والأعرابي يقول: إني رأيت، فأخبره، فقال: (فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) ، الناحية الموضوعية في الحديثين واحدة، وليست هناك زيادة إلا أن ابن عمر صحابي جليل ثقة، حريص على اتباع سنة رسول الله أكثر من غيره، لكن الأعرابي هذا يسكن البادية، ولا نعرفه، وقد قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:٩٧] ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:٩٨] ، فالأعراب فيهم وفيهم، فجاء المؤلف بحديث شهادة الأعرابي، وهل تثبت شهادته؟ هل قال له: أحضر لي شهوداً، أحضر لي مزكين، أين شيخ القبيلة حتى أسأله عنك؟ لا، بل قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم أشهد.
قال: أتشهد أن محمداً -وهذا التجريد كما يقولون- رسول الله) ، ونبهنا على أن الرسالة ليست أنية، لم يقل: أتشهد أني رسول الله؟ لا، محمد بن عبد الله هو الذي أرسله الله قال الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:٢٨-٢٩] ، لم يقل: وكفى بالله شهيداً أنك رسول الله، لا، مع أن هناك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١] ، لكن هنا في معرض التقرير قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد.
ويتفق العلماء على أن هذا وحده يكفي للعدالة، قالوا: لأن الإسلام يجب ما قبله، فهذا الأعرابي مهما كانت درجته في سلوكه وانحرافه فأسلم، فقد محا الله عنه كل آثار الماضي قبل ذلك، وهكذا التوبة كما نعلم بقضية الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فتداركه الله بلطفه، وهداه إلى التوبة، فذهب إلى عابد من العباد ليس فقيهاً، فقال: هل لي من توبة بعد التسعة والتسعين؟ قال: أعوذ بالله! قتلت تسعة وتسعين وتريد توبة أيضاً؟! قال: يعني ما هناك فائدة؟ قال: لا.
قال: إذاً نكمل المائة، وقتله.
فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى، فذهب إلى عالم من العلماء، فقال: يا سبحان الله! ومن يحول بينك وبين الله؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه القرية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم إلى تلك القرية الفلانية ففيها أناس صالحون، فتعبد الله معهم.
فخرج فأدركه الموت في منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة لأنه مقبل عليهم، وملائكة العذاب لأنه مجرم من سابق، فبعث الله ملكاً يحكم بينهم: أن قيسوا بين البلدين، وألحقوه بأقربهما منه، وفي بعض روايات الحديث الصحيحة: (أن الله أوحى إلى هذه أن اقتربي -أي: التي خرج إليها-، وأوحى إلى تلك أن تباعدي) -ورواية أخرى (أن الله سبحانه قربه بصدره - يعني: انقلب وهو ميت ليكون أقرب- فقاسوا فكان أقرب إلى البلد التي خرج إليها قدر ذراع) .
والذي يهمنا: أن الصحابة مهما كانوا فكلهم عدول؛ لأن الله قد شهد لهم بالعدالة، ولذا يقول بعض علماء الحديث: إن المرسل في الحديث يقبل، وهو الذي سقط منه الصحابي، والتابعي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن التابعي لم يلق رسول الله، ولو لقيه لكان صحابياً، فيقولون: غاية ما في الأمر أن الصحابي غير مذكور وغير معلوم لنا، وعموم الصحابة عدول، فعدم ذكره لا يضر في الحديث شيئاً.
فهذا الأعرابي مسلم، وثبتت له الصحبة بأنه رأى رسول الله وخاطبه، ولا يشترط في الصحبة طول الملازمة كما يقول بعض العلماء، فاكتفى منه بالشهادتين فقبل خبره، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس بأن يصوموا غداً، ولم يكن عندهم مدافع، ولا برقيات، ولم يكن هناك إذاعة، والأذان كان أكبر وسائل الإعلام.