للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفة جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم]

[وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم] .

أسماء بنت أبي بكر أخت لـ عائشة بنت أبي بكر، وأسماء هي ذات النطاقين، وكانت جبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند عائشة، فلما توفيت عائشة انتقلت إلى أسماء، فكانت تخرجها للناس، وكان في أكمامها وفي فتحة صدرها ديباج، وتجد أسفل بعض الثياب من الجانب الأيمن والجانب الأيسر فتحة بمقدار عشرين أو خمسة وعشرين سنتيمتراً تعطي الثوب سعة عند مد الخطوة، وهذه تسمى (الفُرَج) ؛ لأن (الفَرْج) هو الفتح، والفرجة: الفراغ في الصف، فكانت تلك الفُرج -أي: فتحات الجبة- في كمها، وفي صدرها، وفي جيوبها، ومن أسفلها عليها من الديباج قدر إصبعين، والذي يرى لباس أهل المناصب في مصر وفي الشام وفي المغرب يجد هذا الشيء موجوداً إلى الآن، ويسمونه (الشريط) ، وهذا لا يوضع إلا في الثياب النفيسة محافظة على الكم حتى لا يتقطع، ومحافظة على الفتحات حتى لا تنشق، ثم في الثياب الفخمة، مثل ما يسمونه (الجوخ) ، ونظير ذلك، يكون خشناً على الجلد، فيجعل في أطراف الفتحة شيء من الديباج يلاصق الجلد، وهو ألين وأنعم، وهذا يبين لنا جواز استعمال هذا الحرير بقدر إصبعين أو ثلاثة أو أربعة أصابع عند الحاجة، وهذا مباح مستثنى من عموم المنع، ومن هنا يقول ابن حجر في فتح الباري: مثل هذا كيس المصحف، وغلاف الكتاب، وخيط السبحة، فهذه الأشياء لو جعلت من الحرير الخالص لا ينبغي تحريمها؛ لأنها يسيرة، وقد رخص في أمثالها بقدر إصبعين في طرف الثوب أو في الفتحة، فلا ينبغي الاعتراض على ذلك، لا سيما إذا استعملت لتكريم المصحف أو حفظ الكتاب.

فكانت جبة النبي صلى الله عليه وسلم في أطرافها قدر إصبعين من الديباج، وهو الحرير المتين.

فـ أسماء تروي أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين، وذلك عند قص المقص من طرف الثوب، فإن من الخيوط ما يتناسل، فإذا ثنيته إلى الداخل وخيطته كف عن أن يتناسل، ولذا يقولون في الخياطة: مكفوف.

أو: غير مكفوف.

قولها: [ (مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج) ] .

الجيب: هو فتحة الصدر.

وقولها: [كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها] كانت جبة النبي عند عائشة أمانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) ، ولو كانت ميراثاً لكان لكل زوجات رسول الله مثلها، لكن كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها أمانة، وكونهن سمحن لها وسكتن عنها لا ندخل فيه، وهذا لا يخصنا ولا نتدخل فيه، فالمهم أنها كانت عند عائشة ما تغيرت وما تبدلت، وهي عين جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتقلت منها إلى أختها وما انتقلت إلى زوجات رسول الله الأخريات، إنما انتقلت إلى أختها؛ لأنها ليست ميراثاً.

قولها: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يلبسونها] .

كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها مع وجود الديباج في فتحاتها، أي أنه يقر استعمال هذا النوع من الثياب، وهذا فقه الحديث في باب اللباس.

وجاء في بعض الروايات: (كان يلبسها في الأعياد والجمع وللوفود) ، واللباس أنواع، منه ما هو للزينة وشكر النعمة والمناسبات، ومنه ما هو للمهنة، ومنه ما هو لأمور عادية.

وقولها: [فنحن نغسلها للمرضى] ينبغي أن يقف عنده طالب العلم بالعقيدة وبالعقل وبالاقتداء والاتباع، فـ أسماء رضي الله تعالى عنها كانت تأخذ جبة رسول الله التي كان يلبسها، وعرقه فيها، فتبلها في الماء ثم تخرجها، وتأخذ الماء الذي خالط تلك الجبة التي فيها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطيه للمرضى يتعالجون به؛ لأن المرضى أحوج من كل الناس.

وبإجماع المسلمين أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي حقاً من آثاره، فكانت أم سلمة رضي الله عنها تخرج جلجلاً -أي: حقاً مثل الجرس- فيه شعرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنت أغمسها في الماء وأعطيها للمحموم فيشافيه الله.

وقد يقول قائل: هذا من فعل أسماء من بعده، وهذا فعل أم سلمة من بعده، لكن ماذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: كلنا يعلم أنه في صلح الحديبية جاء سهيل بن عمر ليفاوض المسلمين، أرسلته قريش وقالت: اذهب إلى هذا الرجل، فجاء -وكان رجلاً عاقلاً- ثم كلم رسول الله كلاماً طويلاً، وانتهى الأمر إلى ما هو معلوم، ورجع إلى قريش وقال: يا معشر قريش! والله لقد دخلت على قيصر وعلى كسرى في ملكهما، فما وجدت أمة تعظم سيدها أو ملكها كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما توضأ وضوءاً إلا تسابقوا عليه، وما تفل تفالة إلا وقعت في كف أحدهم يدلك بها وجهه.

وفي حجة الوداع أو في عمرة القضية: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة عندما حلق له الحلاق، فناول الحلاق شق رأسه الأيمن فقال: احلقه.

فحلقه.

فأعطاه أبا طلحة وقال: اقسمه على الناس، ثم حلق شقه الأيسر فقال لـ أبي طلحة: خذه لك) .

وهذا من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لإنسان أن يجد منفذاً لإسقاطه، أو لإضعافه، أو لنسبته إلى غير رسول الله، فهو عين فعله صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن أم سليم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها، فلما قام وجدها تأخذ في إناء صغير عرقه من الحصير الذي كان عليه وتجمعه، فقال: ماذا تفعلين بهذا؟ قالت: نجعله في طيبنا نتطيب به، وأم أيمن رضي الله تعالى عنها كانت تقم البيت، وفي يوم من الأيام سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعلتِ بالقدح الذي تحت السرير؟) -وكان قدحاً من أعواد يبول فيه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل- فقالت: القدح الذي تحت السرير شربته فقال: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ، والآن عند الأطباء إذا إنسان شرب البول يأمرونه أن يعمل غسيل البطن؛ لأن البول مليء بالجراثيم، وهذه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ؛ لأنه بوله صلى الله عليه وسلم.

فما ثبت لنا في هذا الباب فعلى العين والرأس، وقسماً بالله لو وجدنا التراب الذي كان يمشي عليه لاكتحلنا به في عيوننا تبركاً برسول الله، ولكن لا يحق لنا بعد ذلك أن نأتي إلى الحديد ونتمسح به وما باشره، ولم يكن في عهده، إنما وضع بعد مئات السنين من موته، ولم يلمسه، ولم يمس جسده الطاهر، ولا يجوز أن نأتي إلى أبواب المسجد ونتزاحم عندها ونتمسح بها.

ثم بعد ذلك هل نفعل هذا بغير رسول الله، مثل سادة القوم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ جمهور المسلمين يقولون: لا ينبغي التبرك بهم، ولا بغيرهم من الصالحين، والتابعون أعلم بحق رسول الله وبحق أصحابه، وماداموا لم يفعلوا ذلك بكبار أصحاب رسول الله فلا نفعل ذلك بعلمائنا، لكن يجوز أن نسألهم الدعوة الصالحة، وكل من عرفته صالحاً قد أصلح ما بينه وبين الله فألح عليه أن يدعو لك، فهذا أويس القرني رجل من اليمن قال صلى الله عليه وسلم فيه لـ عمر: (يا عمر! إذا رأيته فاسأله أن يدعو الله لك، وهو بار بأمه، وفي جسده علامة) ، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد من اليمن يسألهم: أفيكم أويس؟ فيقولون: لا.

حتى قيل له: نعم.

هو فينا.

فطلبه فجاءه، فقال: يا أويس: ادع الله لي قال: أنت أمير المؤمنين، فأنت ادع لي.

قال: لا.

فلما ألح عليه أخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له.

وكان يتعامل مع الله فقط لا مع الخلق، فجلس فترة فعرفه الناس من خبر عمر فقال: يا أمير المؤمنين! اسمح لي أن أخرج من المدينة.

قال له: إلى أين؟ قال: أريد أن أذهب إلى العراق.

فقال له: إذا أردت الخروج فآذني لأكتب معك كتاباً للوالي هناك.

قال: لا.

لأن أكون في عامة الناس أحب إلي.

وخرج دون أن يخبر عمر، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد العراق يسألهم عنه، إلى أن لقي رجلاً أخذ أويساً أجيراً عنده، وكان يشق عليه، فقال: أتعرف كذا؟ أتسمع عن كذا؟ قال: عندي رجل مسكين خامل ما يقدر على العمل.

فقال عمر: إذا جئته فقل له: عمر يقول لك: ادع له.

قال: ذاك يدعو لك؟! قال: قل له هكذا.

فلما سافر الرجل قال: يا أويس! اغسل يديك واترك عملك، واجلس هنا وسيأتيك طعامك وشرابك ومن يخدمك.

قال: والعمل أين؟! قال: تستريح.

قال: ألقيت عمر؟ قال: نعم لقيته.

فإذا به يخرج ليلاً ولا يعرفه أحد!.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر بن الخطاب: (إذا لقيته فاسأله أن يدعوا لك) ، وتقدم معنا في باب الاستسقاء أن عمر رضي الله عنه قال: (اللهم! إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقينا، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك لصلاحه ولصلته برسول الله) ، وفي بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم ينزل العباس عمه منزلة أبيه، فتأسوا برسول الله) ، فقام العباس ودعا الله فسقاهم الله.

فالدعوة الصالحة من كل رجل صالح على العين والرأس، لكن لا نتبرك بهم؛ لأننا ليس عندنا اليقين أنه يعطى حق النبي صلى الله عليه وسلم في التبرك به، فهذا ما أحببنا التنبيه عليه عند هذا الأثر، وبالله التوفيق.

قال المصنف رحمه الله: [وزاد البخاري في الأدب: وكان يلبسها للوفد والجمعة] .

أي: كان يلبسها في الجمع والأعياد، وقد أشرنا