للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً

قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة) لم يقل: لما فتح رسول الله مكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي فتحها عليه، وهل فتحت مكة عنوة أو صلحاً؟ في ذلك خلاف بين العلماء، ويترتب على ذلك الخلاف في رباع مكة، فمن قال: فتحت صلحاً فليست هناك غنائم، وليست هناك قسمة غنيمة، وإن افتتحت عنوة فهي غنيمة وهي حق للمقاتلين، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: فتحت عنوة فله وجه، ومن قال: فتحت صلحاً فله وجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخل متواضعاً لله سبحانه وتعالى، حتى إن جبينه ليمس قربوس راحلته تواضعاً لله على نعمة فتح مكة عليه.

وإذا تأملنا السيرة النبوية نجد أنها كعقد متراص كل حلقة تأخذ بعجز الأخرى، وكل غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم أو سرية من السرايا نجد أنها تجر ما بعدها، وهكذا تترتب الغزوات ترتب النتائج على أسبابها.

لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها، فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال حسان) ، وهنا تكريم للشاعر الإسلامي حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه قال هاجياً أبا سفيان ومدافعاً: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء فدخلوا من حيث قال حسان، والفقهاء يرمزون لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم الكاف في كُداء.

فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن) ، فدخل يؤمن الناس على دمائهم وأنفسهم.

إذاً: فتح الله على رسوله مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب، ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل، هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.