للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم خيانة الخائن]

قال: (ولا تخن من خانك) وفي هذه المسألة يقولون: لو أن الذي خانك وأخذ من مالك ولم يرده ولم تقدر على أخذه منه جهراً فظفرت له بمال سراً أو خفية أو دون علم منه، فهل تأخذ حقك مما ظفرت به من ماله أو تؤديه إليه كاملاً وتطالب بمالك الذي أخذه من قبل؟ للعلماء في هذه المسألة مباحث طويلة، وقد أطال ابن عبد البر في هذه المسألة وكذلك ابن رجب عند حديث: (لا ضرر ولا ضرار) لمناسبة عندهم فيه، وهذه المسألة تسمى عند المالكية في الفقه بالاعتصار: من العصر، أي أنه يعتصر حقه مما ظفر به من مال خصمه، ويقول ابن عبد البر: إنه إن أخذ حقه، أي: مقابل حقه لم تكن خيانة؛ لأن الخيانة هي: أخذ الشيء ظلماً، وهذا حينما أخذ هل اعتدى على صاحب المال وظلمه أو استرد حقه؟ استرد حقه.

وابن حزم يقول: يتعين عليه أن يأخذ؛ لأن في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه عن الظلم) فأنت حينما تأخذ حقك من ماله فقد ردعته عن الظلم ورفعت المظلمة التي كانت عنده لغيره، وتغيير المنكر واجب.

والجمهور يختلفون، وابن عبد البر يجيب عن هذا الحديث: (ولا تخن من خانك) ، ويستدل بجواز أخذ الحق بأدلة أخرى مع تفصيل إن كان المال الذي ظفرت به هو من عين مالك، فإذا كان قد اغتصب عليك صحوناً فضفرت بعشرة صحون له، وهو أخذ منك خمسة فخذ خمسة ورد له الخمسة، وكذلك إن كان المال الذي أخذه عليك دراهم وظفرت بدراهم له، أو دنانير فإن كان من غير عين ما خانك به فهل تأخذ مقدارها أم لا؟ إذا خانك في لباس، أو في ثياب، وظفرت له بمال فضة أو ذهباً وهذا المال من غير جنس ما أخذ منك فهل تأخذ قيمة ما خانك فيه؟ على هذا الخلاف الذي يذكرونه عند هذا الحديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ويقول ابن عبد البر: لا تخن من خانك.

أي: بعد أن أدى إليك ما كان قد خانك فيه، فإذا كان قد خانك في مال ثم أداه إليك ثم ظفرت له بمال بعد ذلك فلا تأخذ من ماله وتقول: لأنه كان قد أخذ مني، وكان قد خانني، فالمعاملة قد ارتفعت ولم يعد الآن خائناً لك؛ لأنك قد استوفيت حقك منه.

فقوله: (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفائه حقك، أما قبل وفاء الحق إذا أخذت حقك من ماله فلست بخائن، واستدلوا على ذلك بحديث هند مع أبي سفيان لما قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي عيالي أفآخذ من ماله ما يكفيني؟ قال: خذي من ماله ما يكفيكِ ويكفي عيالكِ بالمعروف) ، فهو أمسك عنها وقصر عنها في النفقة وهذا يُعد خيانة، وهي ظفرت بماله تحت يدها فتأخذ من ماله ما يسد حاجتها، فهل هي خائنة؟ قالوا: لا؛ لأن الخيانة تنتفي إذا كانت بالمعادلة، كما جاء في عموم قوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] ، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦] ، والمجازي على السيئة ليس مسيئاً والمعاقب على قدر ما عوقب به ليس معاقباً وإنما مسترد للحق.

إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) ، هذا صفة عامة.

و (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفاء الأمانة، وأما من أخذ حقه من الخائن فهو ليس بخائن.

(لا تخن) أنا ما خنت ولكن أخذت حقي.