مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجباً أو مستحباً
فالوضوء لذكر الله، ليس بواجب، ومنتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، ولكن يستحب له أن يتوضأ لذكر الله، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي فبال على سباطة قوم، فلقيه رجل في الطريق، فسلم على النبي، فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى حائط فتيمم عليه، ثم رد عليه السلام وقال: (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء، أو قال: على غير طهارة) ولهذا اتفقوا على أن الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجلس جلسة ذكر لله فيما بينه وبين الله أن يكون متوضئاً.
ومن هنا قالوا: الوضوء تارةً يكون واجباً ترتبط به العبادة، وتارةً يكون مندوباً في ذاته، وتارةً يكون مندوباً لعبادة ليست واجبة، فهو واجب للعبادة الواجبة كالصلاة والطواف، وهذا بالاتفاق، وفي مس المصحف على خلاف -كما تقدم- ومندوب لذكر الله.
وكذلك قالوا: يستحب الوضوء فيما يتعلق بالمعاشرة بين الزوجين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وجاء في بعض الروايات: (فإنه أنشط للعود) أي: أن الماء يعطي الجسم نشاطاً، وهناك أيضاً موطن آخر يستحب فيه الوضوء وهو: إذا أراد الجنب أن ينام قبل أن يغتسل، فقد جاء عند ابن ماجة أن الأولى له أن يتوضأ قبل أن ينام، وجاء في بعض الأخبار تهديد إذا لم يتوضأ ونام وهو جنب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أخشى إذا مات في نومه ألا يحضره جبريل) هكذا نص الحديث.
إذاً: إذا واقع الرجل أهله وأراد أن يعود فعليه أن يتوضأ، وبهذا الوضوء يُلغز عند الفقهاء ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجماع؟ والجواب: هذا الوضوء هو الذي بين المعاودتين فلو أحدث حدثاً أصغر مما ينقض الوضوء فلا يحتاج إلى أن يتوضأ وضوءاً آخر؛ لأنه في الأصل ليس متطهراً - بل هو جنب- فإذا ما توضأ وهو جنب من الجماع الأول، وأراد أن يجامع مرة أخرى فتوضأ للوضوء، فلا نقول له: عليك أن تتوضأ مرة أخرى إذا أردت أن تعاود؛ لأن الوضوء موجود، وهذا الحدث لا ينقض الوضوء؛ لأن هذا الوضوء لا ينقض إلا بالجنابة، فإذا أراد أن يعاود مرة ثالثة عليه أن يتوضأ؛ لأن وضوءه قد انتقض بمواقعته أهله.
وأيضاً يستحب الوضوء على الوضوء، وكما تقدم في حديث: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت) فجعل له المشيئة في أن يتوضأ وهو متوضئ؛ لأنه جاء يسأل عن نقض وضوئه من أكل لحم الغنم، فقال له: (إن شئت توضأت) يعني: توضأت على وضوئك الأول.
وجاء في قصة الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الجنة سمع خشخشة نعلين أمامه، فقال: من هذا؟ قيل له: بلال.
فلما نزل وسأل بلالاً وقال: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فقال بلال: ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به صلاة) .
وهذه الصلاة هي التي يقولون عنها: سنة الوضوء، اللهم إلا إذا كان في الأوقات المنهي عنها، إذا أخذنا بقول الجمهور في أنه لا صلاة في الأوقات المنهي عنها، وأما الشافعي رحمه الله فعنده جواز صلاة ذوات الأسباب، واعتبر الوضوء من الأسباب التي تسوغ للإنسان أن يصلي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
والعامة يقولون: الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان على وضوء، وواجه ما يكره في طريقه أو اشتد عليه شيء، ودعا الله سبحانه، فإنه يكون على حالة حري أن يستجاب له فيها.
والوضوء على الوضوء -كما قيل- نور على نور.