[دلك الأعضاء في الوضوء]
قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه) أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة] .
يروي لنا عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه مما رأى من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء القليل، قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي مد فأخذ يدلك ذراعيه) ، وثلثا المد يبينه العلماء بأن المد ربع الصاع، وتقدم في الزكاة بأن الصاع خمسة أرطال وثلث على رأي الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله ثمانية أرطال، وعلى قول الجمهور أنه خمسة أرطال وثلث فالصاع أربعة أمداد، فكم يكون مد الواحد؟ يكون المد رطلاً وثلث رطل؛ فإن الرطل الباقي يقسم إلى ثلاثة أثلاث بالإضافة إلى الثلث الآخر، فيبقى عندنا أربعة أثلاث، فتوزع على الأربعة الأمداد، فيكون وزن المد رطل وثلث وأما المقدار الذي أتي به صلى الله عليه وسلم فهو -تقريباً- نصف لتر.
وقد جاء عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، وهنا: (أتي بثلثي مد) فمن كان من عادته الاقتصاد في الماء، فيتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع -والصاع: ثلاثة لترات -وهذا مبدأ في لزوم الاقتصاد وترك التبذير، ولذا قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإنسان أن يزيد في غسلات الوضوء على الثلاث التي جاءت بها السنة؛ لأنه يكون قد دخل في التبذير والمبالغة، والزيادة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال رجل لـ أنس حين حدث بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقال: والله لا يكفيني! فقال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر منك شعراً) وهذا يمكن أن يتأتى بالطريقة التي أشار إليها عبد الله بن زيد، حيث قال:: (فأخذ يدلك) ، والدلك أولاً يكون بقليل الماء؛ لأن البشرة إذا كانت جافة فإن الماء لا يتخللها، وربما كان هناك هواء وفقاقيع، لكن حينما يمسحها ويدلكها بيده وهي مبللة فإنه إذا جاء أدنى ماء جرى على اليد، وتعتبر تلك غسلة ولو بحفنة صغيرة، فالدلك لأمرين: الأول: التأكد من غسل الذراع وشموله، وعدم وجود بياض ولمع في عضو الوضوء.
الثاني: الدلك ييسر عملية الوضوء بقليل من الماء.
والغرض من هذا الحديث أمران: الأمر الأول: الدلك في الوضوء، وبعض العلماء شدد في الدلك في الغسل كالمالكية، حتى إن بعضهم قال: إذا لم يستطع أن يعمم البدن بيديه يأخذ حبلاً.
واليوم يوجد من أدوات الغسل الشيء الكثير، فإذا أخذها وحركها من خلفه تأكد من وصول الماء إلى بشرته، فالمالكية يؤكدون الدلك في الغسل؛ لأنه تقدم حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، أما في الوضوء فإنهم يتساهلون في الدلك فيه.
وهذا الحديث أصل في الدلك عند الوضوء، ولكن ليست كل الأعضاء صالحة للدلك، فالوجه صالح للدلك، والرأس غير صالح للدلك ولو بالغ في المسح لكان مكروهاً، ولذا قيل بأن المسح لا يكرر ثلاثاً؛ لأنه إذا تكرر ثلاثاً ترك بللاً على الشعر يشبه الغسل، والقدمان صالحتان للدلك، فقوله: (يدلك ذراعيه) نقيس عليه فنتبع الذراعين بالقدمين، وهذا أقل حد تبين من فعله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ به، فلو جاء إنسان -كما رأينا بعض الطوائف- وأخذ كأس الماء الذي فيه ماء قليل، فجعل يتوضأ به يبل أصابعه في الكأس ويمسح بهما على أعضاء الوضوء.
فإن وضوءه لا يصح بهذا المسح، بل لابد من الغسل، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على العضو، أما المسح فقد يجتزئ فيه بأن تكون الآلة التي يمسح بها مبللة، فيمرها على العضو المراد مسحه، ولذا قال العلماء في الباء في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦] قالوا: (مسح) تتعدى بنفسها وتتعدى بالحرف، فتقول: مسحت الزجاج، ومسحت رأس اليتيم.
فهي تعدت بنفسها فلا تحتاج إلى الحرف، لكن لما جاء الحرف، فكما يقول الزمخشري: دلت الباء هنا على أن هناك شيئاً يمسح به من دهن أو ماء أو نحوه فتكون اليد فيها شيء تمسحه بالرأس وهو الماء، وعلى هذا: فالاقتصار في الوضوء على هذا المقدار يخل بالوضوء، والزيادة، على المد الكامل وليس الثلثين يدخل في الزيادة والتعدي أو التبذير.
وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين لنا أمرين: الأول: بيان أقل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به.
الثاني: بيان أن الدلك مشروع في الوضوء.
وهذا مناسب لما ذكر أولاً في حديث لقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء) والإسباغ من ضرورياته الدلك، حتى لا تبقى لمعة أو محل يحول بين الماء وبين البشرة، والله أعلم.