للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين التحجير والإحياء]

[وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له) ، رواه أبو داود، وصححه ابن الجارود] .

يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث وما بعده ليبين مجمل ما تقدم من حديث الإحياء، وبم تكون حياة الأرض الموات، وكما في رواية مالك في الموطأ: (من عَمَّرَ مواتاًً فهو له) ، فبم تكون عمارة الموات؟ جاء هنا بشيء من التفصيل، فقال: (من أحاط) ، والإحاطة والشمول من الحائط الذي يحيط بالأرض، وهو الجدار الذي يسمى بالسور، فإذا ما أحاط إنسان أرضاً بحائط مبني فقد أحياها.

وتحت هذا الحديث يفصل العلماء بين الإحياء والتحجير؛ لأن التحجير كما يقال: بالحجرة، يقال في حجر إسماعيل: إنهم لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، فقصروا البناء على جهة الركنين اليماني والحجر الأسود، وما بقي من مساحة البيت حجروا عليه ببناء حجر إسماعيل حتى لا يضيع في المسجد، ويكون الطواف من وراء الحجر ليشمل شوط البيت كاملاً بناءه وما بقي من أرضه.

ولذا لما طلبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، أخذ بيدها وأدخلها حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا؛ فإنه من البيت، والتحقيق عند العلماء: أن الحجر يزيد عن مساحة البيت بأشبار، وأن ذرعة الحجر من جدار الكعبة إلى الجهة الأخرى ستة أذرع.

فالإحاطة بناء الحائط عن الأرض سواءً كان للسكنى أو للزراعة.

وفرق بين التحجير والإحياء: أن الإحياء يُمَلِّك، والتحجير يخصص، بمعنى: أن من حجر أرضاً فهو يختص بها وأحق بها من غيره، ولكن لا يملَّك بذلك، وبعضهم يقول: يعطى مهلة ثلاث سنوات؛ فإن أحيا تملك وإن لم يحي يقال له: ارفع يدك ليحييه غيرك، ثم يختلفون في نوع التحجير من الإحياء في بناء الحائط، فالبعض يعتبر بناء الحائط من الإحياء، والبعض يقول: التحجير: هو أن يحيط الأرض برصف من الحجارة.

والبادية أو أهل الخلاء بعيداً عن المدن يسمون ذلك ظفير، والظفير: هو رص الحجارة مشتبكة بدون بناء بارتفاع نصف متر إلى متر حول الأرض.

هذا الظفير يعتبرونه تحجيراً، وهذا في الأراضي التي تسقى بماء المطر، والجمهور الذين يقولون بإحياء الموات لا يعتبرون الأرض التي تسقى بماء المطر وتزرع عليه محياة؛ لأن إحياءها متوقف على نزول المطر وقد يتأخر، ولا يتأتى غرس على ذلك، إنما هي زراعة موسمية، وحينما يأتي المطر وينصرف عن الأرض تكون بعلية، وإذا تشبعت الأرض بالماء يضع البذرة فيها فتنبت على ثرى الأرض المشبعة بالماء، أو تشرب من مجرى السيول.

وفي بعض البلاد يسوق الله سبحانه وتعالى السيل للقرية فتسقي أراضيها على سبيل المناوبة، أعالي السيل يسقي ثم ينزل ويفيض على من بأسفلها، ورأيت هذا النظام متقناً في سامطة حيث التربة هناك خصبة، فبعد أن يجف الماء في الأراضي يتركه صاحبها إلى ارتفاع لا يقل عن نصف متر، ثم يفيض إلى من بعده، وهكذا إلى من بعده إلى أن يسقي الجميع، فإذا ما شربت الأرض الماء جاء وأخذ البذر ووضعه في تلك التربة المشبعة بالماء، ويسميه الفلاح زراعة بعلية، وهذا أجود ما يكون إذا كانت التربة خصبة.

وقد أخبروني هناك بأن الزراعة البعلية مثل الذرة تحصد مرتين، المرة الأولى التي وضع بذرها تأتي وتحصد، ثم ينبت الشفير وهو النبات الصغير من الجذور التي في الأرض وتؤتي محصولاً ثانياً على إثر ذلك الماء الذي أتى به السيل، هذه الأرض التي تزرع بهذه الحالة لا تُمَلَّك، ولكنهم من قديم الزمان توارثوها، وأخذ كل القطعة التي تحت يده من أب عن جد وتوارثوا على ذلك وتواطئوا عليه، فلا يعتدي أحد على أرض أحد.

فهل الحائط إحياء يستوجب التمليك أم أنه تحجير يجعل لصاحبه اختصاصاً على غيره، فلا يحق لأحد أن يعتدي عليه وإلا كان صاحب عرق ظالم، وكما جاء عن مالك فيما نقله عنه ابن عبد البر: أن العرق الظالم هو: إما حفر: يحفر بئراً، أو غرس: يغرس نخلاً أو شجراً، وإما زرع وبناء، فهذا هو الظلم الذي لا حق لعرقه فيه، ويجب عليه أن يزيل ما أنشأ.

ويقول ابن عبد البر: يفعلون ذلك ليتملكون الأرض، والحال أنها مملوكه للغير.

إذاً: من أحاط أرضاً فهي له بالتحجير أو بالتمليك، على هذا التفصيل.

أما من لم ير التحجير إحياء، فقال: هذا تحجير ويعطى المهلة حسب العرف، والبعض يقول: ثلاث سنوات، إن أحيا وزرع وغرس وحفر بئراً يكون ضامناً لسقيها.

فهذا إحياء، وإن لم يحفر بئراً ولم يغرس ولم يحي، قيل له: إما أن تحيي ما حجرت أو ترفع يدك ولا تحجر الأرض على غيرك ممن يستطيع أن يحييها.

وكما جاء عند ابن عبد البر: (من أحيا أرضاً مواتاً فله أجره) ، يؤجر على ذلك لما قيل: إن الفلاح يؤجر على غرسه وزرعه لما يحدث من ذلك من إطعام جائع ومسكين، وشرب الحيوانات، وأكل الطيور، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والعوادي صدقة) ، يعني: أن ما طرأ على الزرع من اعتداء غير مقصود من بني آدم، وما سقط وأكله الطير أو الوحش الطارف الذي يمر به، أو الضيف كل ذلك صدقة لصاحب الزرع.

وهكذا يكون الإحياء مصلحة دنيوية وأخروية؛ لأنه استثمار للأرض الموات، وجلب النفع له ولبني الإنسان والحيوان.