[ما يبدأ به من أعضاء الوضوء]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما -في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم-: قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في الوضوء، فما علاقة صفة الحج بأعمال الوضوء؟ لقد أراد المؤلف رحمه الله تعالى الإتيان بعبارة جاءت في صفة الحج صالحة لجميع الأعمال، فجاء بها إلى الوضوء، وهذا لأول وهلة يعطينا فكرة عن المؤلف أنه يرى القياس؛ لأنه سيقيس أعمال الوضوء على أعمال الحج بعموم القاعدة التي جاء بها من صفة أعمال حج النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج قال: (ابدأوا) أو قال: (أبدأ) والفرق بين الروايتين هو كسر الهمزة وإسناد الفعل إلى واو الجماعة، وفتح همزة القطع، فبكسر الهمزة هو أمرٌ موجه للناس، وبفتح الهمزة هو إخبار عن فعله وإرادته ورغبته فيما يفعل، وذلك في المتساويين: الصفا والمروة، فكلاهما غاية في السعي، والمطلوب سبعة أشواط، فإن بدأت بالصفا وأتيت إلى المروة كان شوطاً، وإن بدأت بالمروة وانتهيت إلى الصفا كان شوطاً، فنحن نعد قطع المسافة بينهما شوطاً، ولكن النص هنا في البداية، فإذا كان الصفا والمروة متساويين من حيث البداية إن بدأنا من هنا أو بدأنا من هنا فهو شوط فمن أيهما نبدأ؟! فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) والله بدأ بالصفا كان المشروع أن نبدأ بالصفا.
فمن بدأ السعي بالمروة للشوط الأول وجاء إلى الصفا، ثم رجع من الصفا إلى المروة يكون له شوط واحد، وهو رجوعه من الصفا إلى المروة، والشوط الأول الذي بدأه من المروة إلى الصفا يكون لاغياً؛ لأن المروة ليست محلاً لبداية السعي، فيكون فعله الشوط الثاني في حسابه من الصفا إلى المروة هو الشوط الأول من السبعة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا) ، سواءٌ أكان أمراً والأمر يقتضي الوجوب، أم كان إخباراً، فقد أحال أيضاً على فعله وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فهو بدأ بالصفا وقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وفي رواية (أبدأ) تكون قضية خاصة بالسعي؛ ولكن قوله: (بما بدأ الله به) ، لفظة (ما) فيه موصولة، فيتعين إذا كان هناك حكم والأعمال فيه متساوية، وتصح البداءة من أي واحد منها أن نراعي البداية بِمَا بدأ الله به من هذه المتعددات، فيتعين أن نبدأ منه؛ لأن العليم الخبير لا يقدم واحداً من المتساويات إلا لحكمة، فنعمل بذلك، وقلتُ: وذلك ما لم يكن هناك مراعاة لجانب آخر، كالترتيب الزمني.
فمثلاً قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:١٣] فذِكْرُ نوح ثم ذِكْرُ إبراهيم وموسى وعيسى هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وإبراهيم هل هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وهل هم متساوون في الزمن أم مختلفون؟ والجواب: مختلفون.
فترتيبهم الزمني كترتيبهم في النص الذي جاء بإيرادهم، فروعي في ذلك الزمنُ.
فأنت عندما تقول: الله سبحانه شرع لنا من الأديان ما شرع للأنبياء من قبلنا عيسى وموسى وإبراهيم لا مانع من ذلك؛ لأن التركيب جاء مراعياً للزمن، وأنت لم ترد بيان التاريخ.