[العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة]
[وعن جابر رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا الحديث موضوعه في عدد الذين تنعقد بهم الجمعة.
وأعتقد أنه تقدم الكلام في مثل هذا، ومن رجع إلى تتمة أضواء البيان عند الكلام على سورة الجمعة يجد الأقوال هناك متفاوتة، ولم يصح نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد الجمعة.
والمتأمل يجد أن هناك من يقول: ثلاثة أشخاص مع الإمام، أو شخصان مع الإمام، وهناك الإمام والمؤذن أخذاً من قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة:٩] فهناك منادِ {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:٩] وهناك من يسعى، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] وهناك من يذكر الله، فقالوا: إذاً هناك المنادي وهو المؤذن، وهناك من يذكر الله وهو الإمام، وهناك من كلف بالسعي، وأقل الجمع ثلاثة.
فقوله: (فاسعوا) يصدق على الواحد والثلاثة، فإذا كانوا ثلاثة يسعون وواحد يؤذن وواحد يذكر الله، فهؤلاء خمسة، فإذا وجد خمسة أشخاص وجبت عليهم الجمعة.
وهناك من قال: أقل عدد يكون اثني عشر أخذاً من قصة التجارة، لما كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم قام يخطب فجاءت التجارة، ودقت لها الطبول، فخرج الناس إليها ولم يبق ممن كان عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال الوادي عليهم ناراً) ، فقالوا: هذا العدد حفظ الله به الصحابة من أن يهلكوا، وسماع الخطبة جزء من الجمعة حتى أنهم قالوا: هي بدل الركعتين الأخريين، ويأتي الخلاف في سماع الخطبة هل هو واجب أو سنة، وهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟! وأجيب عن هذا وذاك: أن أول جمعة أقيمت في المدينة المنورة كانوا نحواً من أربعين رجلاً، فقالوا: كون الذين بقوا عند مجيء رسول الله وقت الخطبة عند مجيء العير للتجارة اثني عشر، هذه خطيئة وقعت فجأة ويمكن كان أن يبقى عشرون، ويمكن أن يبقى عشرة أو خمسة، فهذا ليس منضبطاً بعدد، إنما صادف أن الذين بقوا اثنا عشر رجلاً، كذلك صادف الذين صلوا الجمعة أول ما كانوا أبعين رجلاً، ثم جاء خبر جابر، ولكن نبه المؤلف رحمه الله على ضعف هذا الحديث.
فالذي قال ثلاثة أبو حنيفة رحمه الله، والذي قال اثنا عشر رجلاً أحمد ومن وافقه، والذي قال أربعون الشافعي رحمه الله، والذي قاله مالك هو ما يمكن أن يكون كقاعدة عامة ليست مرتبطة بعدد هندسي ولا حسابي، فقال: كل جماعة أقامت في قرية واستقرت، وفيها أميرها وسوقها وجبت عليهم الجمعة سواء كانوا كثيراً أو قليلاً؛ لأنها وحدة سكنية قائمة بذاتها.
وأشرنا سابقاً -أيها الإخوة- بأن هذا القول هو الذي يفيده السياق في آخر السورة الكريمة؛ لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] ، أي: اتركوا البيع، فلو كانوا اثنين أو ثلاثة لم يكن هناك بيع كثير حتى يحتاج أن نقول: اتركوه؛ لأنها صفة حصلت وأنت ماش ما تستغرق شيئاً، لكن تدل على وجود سوق وأن البيع قائم، والناس يتبايعون ويُشغلون عن الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:١٠] هل يقال لاثنين وثلاثة: انتشروا؟! الانتشار يكون للعدد الكثير.
إذاً: هل وجدتم سوقاً قائماً في الخلاء أو في الفلاة دون وجود قرية لها رئاسة؟! لابد من وجود خادم ووجود ولي أمر وحاكم ليفض النزاعات التي تقع في الغالب بين المتبايعين في الأسواق وإلا حلت الفوضى.
إذاً: هذه وحدة قروية كما يقال مستكملة وقائمة بذاتها، فهذه المجموعة عليها أن تصلي الجمعة سواء كانت عشرين أو مائتين أو أكثر أو أقل، وعلى هذا يضيف المالكية: ويمكن لهذه الجماعة أن تدافع عن نفسها، بمعنى: لو داهمها حيوان أو وحش أو قطاع طرق لكانوا بمجموعهم يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولذا قال: تجب الجمعة على قرية يستقرون فيها احتياطاً من بيوت الشعر، وهم الذين يتبعون القطر والغيث والمرعى فلن يستقروا في مكان، فهؤلاء ليست عليهم جمعة كما يقول مالك رحمه الله.
إذاً: قضية العدد ليس فيها نص، وإنما كلها اجتهاديات، وأولى الأقوال في ذلك ما جاء عن مالك رحمه الله؛ لأنه كلام من واقع الحياة ومن وجود القرى والمستوطنين فيها، والله تعالى أعلم.