[وجوب الفدية على من اضطر إلى فعل محظور]
وأما إيجاب الفدية مع أنه معذور فقالوا: هو معذور رُفع عنه إثم الحلق لعذره، وفرضت عليه الفدية لحلق شعره؛ لأنه استفاد من حلق الشعر الممنوع عليه وهو محرم.
إذاً: المسألة متعادلة، فقد عذر بالمرض فلا إثم عليه، ولو حلق الشعر بدون مرض فإنه يكون متعدياً آثماً، لكن العذر أسقط عنه الإثم في حلق الشعر، واستفادته من حلق الشعر جعلت عليه الفدية مقابل هذا الشعر الذي حلقه.
إذاً: من اضطر إلى فعل محذور في الإحرام فله فعله وعليه الفدية، ومحظورات الإحرام فيها أشياء تدخلها الضرورة، وأشياء لا تدخلها.
فلو أن إنساناً معه زوجته في الحج، فهل هناك ضرورة لأن يباشرها؟ ليس هناك ضرورة، والبعض يذهب بعيداً ويقول: إذا كان مريضاً بالشبق ولا يستطيع أن يصبر، فإن هذه ضرورة، والمرأة ما ذنبها إذن؟ وهذه التقديرات البعيدة الأصل فيها أن تترك.
ومن حالات الضرورة أن تكون هناك شدة برد، فمن الضروري أن يلتحف أو يتغطى أو يلبس؛ فإن وجد ما يلتحف به-كالبطانية ونحوها- وضعه فوقه أو لفه على جسمه، وهذا ليس فيه مانع، فإنه يتقي البرد ولم يلبس شيئاً.
وإذا كان عنده صداع في رأسه، ولابد أن يربط رأسه ويلبس عليه عمامة، فهنا ضرورة، فله ذلك، كذلك إذا اضطر إلى تقليم ظفره، كما لو دق إصبعه في شيء فكسر ظفره، فقالوا: إن بقي هذا الجزء المكسور وجاء عليه الهواء فإنه قد يؤذيه، فمن أجل أن يتجنب هذا الإيذاء له أن يزيله، وعليه كفارة.
فمن اضطر إلى شيء ممنوع عليه في الإحرام فعله وعليه كفارته.
وهكذا أباح له صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره من أجل الأذى الذي فيه، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:١٩٦] يقول العلماء: هنا دلالة الاقتضاء، وابن حزم يوافق الجمهور في ذلك، والتقدير: فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه، فحلق بسبب الأذى من رأسه، فعليه فدية، وابن حزم يوافق على ذلك.
لكن نجد أن ابن حزم يخالف في مثل هذا الموقف في الصوم في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة:١٨٤] والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر بسبب المرض أو مشقة السفر فعدة من أيام أخر، لكن ابن حزم يقول: إذا كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، سواء أفطر أو لم يفطر.
ولماذا قدر هناك (فحلق) ولم يقدر الاقتضاء هنا (فأفطر) ؟ حصلت مغايرة ولا نستطيع أن نقول: تناقض، فهو إمام جليل رحمه الله، ولكن الأسلوب اختلف عنده، فهنا {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:١٩٦] أي: فحلق، كما قال ابن حزم نفسه: لأن المرض والأذى في الرأس لا يستوجب فدية، إنما الذي يستوجب الفدية هو حلق الرأس.
ثم جاء أوسع من هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك نسكاً فليرق دماً) ، والنسك هنا يشمل كل أعمال الحج، قال تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:١٢٨] لكن هناك من المناسك ما يجبر بالدم، ومن المناسك ما لا يجبر إلا بفعله ذاتياً، فالطواف والسعي والوقوف بعرفات مناسك، لكن إذا فات واحد منها لا يجبر بالدم، بل لابد من فعله، لكن المبيت بمزدلفة والمكث في عرفات حتى تغرب الشمس وأن يجمع جزءاً من الليل مع النهار، هذا واجب، ومن ترك يوماً من أيام منى، فقد ترك نسكاً، ومن ترك طواف الوداع، أو طواف القدوم، فإن هذه مناسك لكنها تجبر بالدم.
إذاً: المحرم قد يترك واجباً، وقد يفعل محظوراً، فإن كان للضرورة فلا إثم عليه وعليه الفدية، وإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية.