[الوصال من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام]
لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وهو يواصل تساءلوا -وهم محقون في ذلك-: نهيتنا والأصل أننا نتبعك ونستن بسنتك، ونهتدي بهديك وأنت تواصل! فمن حقنا من باب اتباعك أن نواصل لمن قدر عليه.
فبين لهم الفرق، فقال: (لا، لست مثلكم، إني أبيت -وأكثر الروايات ليس فيها: عند ربي- يطعمني ربي ويسقيني) ، (إن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) ، هذا اللفظ في هذا الحديث احتار العلماء فيه وإلى الآن، ولم نجد جواباً شافياً في ذلك، إنما هي معجزة لرسول الله، والمعجزة -كما يقال- فوق الطاقة الإدراكية، فوق طاقة العقل؛ لأنها لو نزلت لمستوى إدراك العقل خرجت عن كونها معجزة، جميع المعجزات لا يحيط بها العقل: نبع الماء بين أصابعه، تسبيح الحصى في كفه، تفتيت الصخرة بضربات وهم قد عجزوا عنها، تكثير الطعام القليل حتى يكفي ثمانين شخصاً أو ثلاثمائة شخص، هذه أشياء لا تقاس بمقاييس العقول، هي معجزات.
وهنا قال بعض العلماء: يطعمني ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام وشراب الجنة لا يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً ما واصل، وكل الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة.
فهل نحمل (يطعمني ويسقيني) على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني ويسقيني) على أمر معنوي؟ القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب حقيقة فليس هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك وصال.
وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟ أكثر من أطال في هذا ابن القيم رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه المسألة، وقال: إن العبد إذا اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي بأبسط الأشياء من الطعام، ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت الجسم، بخلاف الجسم، فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها الجسم، وقد وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان أميرها أبا عبيدة، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما في أيدي أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل واحد تمرتين أو ثلاث أو كذا حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة في اليوم، غزاة في سبيل الله وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا طعامك اليوم، لا يصبر على هذه الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله، وأحسوا أن جوعهم قربة لله، وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم الشدائد، وأحسوا بالشبع والقوة.
تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا، فوجدنا لها وجداً شديداً -حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون أكل، سبحان الله! - ثم ساق الله لهم حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه، ويتفكهون أربعة وعشرين قيراطاً.
فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف روحانيته، فإن هذه الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس بعض الناس تحصل لهم غيبوبة ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا بعض الخواص.
إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم يطعمني) نحاول أن نفهمها، ولكن نعترف بأننا لن نفهمها.
الذي يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله ثم لرسول الله.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمراً أو نهى نهياً، وإن كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال: (لا تواصلوا) ، وأنت تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل أن يقول: أنت تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو المتكلم، وهو داخل في النهي.
وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر، والناهي يدخل تحت النهي إلا إذا جاء صارف.
وعلى هذا، يذكر ابن عبد البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه لمن شق عليه، ومن قدر فليواصل.
ويقول ابن عبد البر: الجمهور أنه لا يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.