يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصره في هذا الموطن، وذكر غيره بقية الحديث، وأجمع من ذكره هو الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وهنا يقول:(ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه) وقد تقدمت الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه من المدينة بعض الإبل، وجاء علي رضي الله تعالى عنه من اليمن أيضاً بجملة من الإبل، واجتمع من ذلك مائة بدنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، وأوكل إلى علي رضي الله عنه أن ينحر البقية، وأن يأتي بالجزارين ليسلخوا وليقطعوا وأن يعطيهم الأجرة من غير اللحم، وإذا كانوا مساكين أو يحتاجون إلى اللحم فيأخذون منه بصفة الحاجة، لا بصفة الأجر على عملهم.
وقد تقدم أن العلماء قالوا: كونه صلى الله عليه وسلم اقتصر على نحر ثلاث وستين بيده الكريمة فهذا فيه إشارة خفية إلى أن سني حياته صلى الله عليه وسلم ستنتهي عند الثلاث والستين سنة، وفعلاً توفي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة بقليل، وتقدم أن العلماء بحثوا في كلمة:(نحر) و (ذبح) فقالوا: إن النحر للإبل وهو أن تطعن في نحرها، أي: في لبتها وهي في آخر العنق من جهة الصدر، والذبح يكون في طرف العنق من جهة الرأس، فالذبح للشاة والنحر للإبل، والبقر مترددة بين الإبل وبين الغنم، فبعض العلماء يلحقها بالإبل لضخامة جسمها، وبعضهم يلحقها بالغنم لقصر عنقها، وتقدم أن الحكمة في أن الإبل تنحر والغنم تذبح: أن النحر والذبح كلاهما إنما يكونان من أجل أن يتخلص جسم الحيوان مما فيه من الدم، فإذا ما نحرت الناقة فسيكون موضع خروج الدم قريباً من القلب، ويستطيع القلب أن يظل مستمراً بالنبض إلى أن يخلص الجسم مما فيه من الدم، وتأتي حركة الأطراف في الحيوان المذبوح فتنشط الدم للخروج من الأطراف إلى القلب، والقلب يدفعه إلى الفتحة الناتجة عن النحر، وهي فتحة قريبة من القلب، لا يزيد بعدها عنه على ثلاثين سنتيمتراً، أما إذا ذبحت الإبل ذبحاً فإن القلب يحتاج إلى مجهود كبير ليدفع الدم إلى نهاية هذا العنق الطويل، وربما انتهت حياته قبل أن يخلّص البدن من كامل الدم الذي فيه، فكان الأنسب بالنسبة للإبل أن تنحر؛ لسهولة خروج الدم من هذا الجسم الكبير بالنحر، بخلاف الذبح.
وكان في الغنم الذبح؛ لأن مجمع العروق والحلقوم إنما هو في طرف الرقبة من جهة الرأس.
ولما نحر صلى الله عليه وسلم الهدي أمر علياً رضي الله عنه بأن يكلف الجزارين أن يأخذوا من كل بدنة بضعة لحم، أي: قطعة، وجمعت المائة قطعة من المائة بدنة في قدر وطبخ جميع ذلك، فأكل صلى الله عليه وسلم من اللحم وشرب من المرق، ومن هنا يقول العلماء: من استطاع أن ينحر أو يذبح هديه بيده فهو أولى، ومن لم يستطع أناب عنه، كما أناب النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله تعالى عنه في نحر بقية الهدي، وكذلك من السنة أن يأكل الحاج من هديه؛ وذلك لكي يتخير من الهدي ما تطيب نفسه أن يأكل منه، وعلى مبدأ:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فالذي تطيب نفسه أن يأكل منه يأخذه من أجل أن يأكل منه المسكين، أما إذا جاء إلى مريضة أو هزيلة أو لا تصلح للأكل فذبحها فإن المسكين يعاف أن يأكل منها كما يعاف صاحبها.
وبعد أن أنهى صلى الله عليه وسلم النحر حلق، كما قال تعالى:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:١٩٦] بعدما نحر صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الحلاق فحلق له قبل أن يفيض إلى مكة لطواف الإفاضة، وأما كيفية حلقه لشعره صلى الله عليه وسلم فقد دعا الحلاق وناوله شق رأسه الأيمن، فحلقه ثم قال له: قسم هذا الشعر على الناس، يقول بعض العلماء: إنه طيّب به خواطر من لم ينل شيئاً من اللحم، والتحقيق عند أكثر العلماء: أنه أمر بتقسيمه حفظاً له وإكراماً له لئلا يلقى في الأرض فيوطأ، فأمر أن يوزع على الناس، وكل يتمنى أن ينال الشعرة أو الشعرتين ليحتفظ بها ويكرمها دون أن تصاب بأذى أو امتهان.
وقد كان عند بعض الصحابة بعض ذلك الشعر، حتى قيل: إن خالد بن الوليد كان يحتفظ بشعرات في قلنسوته، وأم سلمة رضي الله عنها كانت تحتفظ بشعرات في جلجل من فضة، فكان إذا أتاها محموم جاءت بماء فصبته فيه، وحركت هذا الجلجل بما فيه من هذه الشعرات ثم سقته المريض فيعافيه الله سبحانه وتعالى بفضله، وهكذا لما حلق الشق الثاني من الرأس قال: خذ هذا أنت.