لنعلم مدى حرية القول والكلمة في الإسلام -ولكن في محلها- فهذه امرأة مملوكة معتوقة لزوجه صلى الله عليه وسلم يعرض عليها أمراً رفيقاً، فتستفسر فيجيبها بالرفق أيضاً، ولا يفرض سلطته عليها، مع أنه له الحق في ذلك ولو لم تكن معتوقة لزوجه؛ قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:٦] سبحان الله! إذاً: من حقه أن يأمرها وينهاها، فالمرأة التي جاءت تعرض نفسها وتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له حاجة فيها، فقال رجل: زوجنيها يا رسول الله! فزوجه، بأي حق زوجه امرأة أجنبية؟! لأنه أولى بها من أبيها وأخيها، وكل عصبتها، فبولائه عليها امتلك حق التزويج، وهنا لم يفرض هذا الحق على هذه الجارية، وإنما قال:(أنا شافع) ، ما أعظمها من كلمات! وما أشرفه من موقف! فإذا بالجارية التي عُتقت بالأمس تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة الحق الناصع:(لا حاجة لي فيه) .
فكأنها تقول: نعم، شفاعة طيبة وحسنة، ولكن أنا لا أستطيع أن أنفذ هذه الشفاعة، أي إنسان مهما عظمت منزلته، في أي دولة هل يمكن أن يرفض شفاعة رئيس الدولة في أمر أكبر من هذا، والله لا يقدر، لو قال: يا فلان أطلب منك كذا، فسيقول: سمعاً وطاعة على الرأس والعين، ولو رغماً عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يجابه رئيسه الأعلى، رئيس الدولة بطلب يطلبه، ويرفض ذلك! وهذه جارية تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها:(لا حاجة لي فيه) .
علموا الناس الحرية الحقيقة في الإسلام، احترام الكلمة، واحترام الشخصية، وإعطاء الحقوق لأهلها، فهذه جارية وأعطاها حقها إلى هذا الحد، ولم يعنفها، فإذا لم يكن لك فيه حاجة فأنت وشأنك، وأنا أديت الذي عليّ، وشفعت فيه، وبعد هذا فالأمر إليك.
من يستطيع أن يصور المعنى، ويبين هذا للعالم؟! وأصبحت بريرة حرة، ومغيث ذهب في سبيله.