قال صلى الله عليه وسلم:(وخلل بين الأصابع) هذا مناسب لما قبله؛ لأن من عملية إسباغ الوضوء أن تخلل بين أصابع اليدين والرجلين؛ لأن العادة أن الأصابع قد تنطبق على بعضها -لا سيما أصابع القدمين-، فتكون فرصة دخول الماء بين الأصابع قليلة، والتخليل مأخوذ أيضاً من معنى محسوس، وهو عود الخلال، وكان الناس سابقاً -خاصة من لم توجد في أرضهم أعواد الأراك لاستعمال السواك بكثرة- كانوا يستعملون أعواد الخلال، وهو نبات ينبت أحيانا مع القمح، وهو عبارة عن أعواد كأعواد الكبريت، وهي أدق منها، ولها ثمرة البذور في أطرافها يداوى بها الكلى والحالب ونحو ذلك، وتلك الأعواد ملساء ودقيقة مثل إبرة الخياطة، فكانوا يدخلونها خلال الأسنان في تلك الفجوات لتنظف الفم وتقوم مقام السواك، وكانوا يختارونها دون غيرها لكونها ملساء، ولدقتها ورائحتها، فكانت تعطر الفم مع النظافة.
فتخليل الأصابع إدخال الأصبع بين الأصبعين، مأخوذ من تخليل الأسنان، فالتخليل والخلة أخذا منها، فلم يبق بين الأسنان ما يسع مع عود الخلال عوداً آخر، وكذلك تخليل الأصابع، فإذا أدخلت الأصبع بين الأصبعين لم يترك مجالاً لأصبع آخر؛ لأن الأصبع وصل إلى الفجوات بين الأصبعين.
ومن هنا قيل: الخليل: هو الصديق الوحيد للذي اتخذه خليلاً وحيداً لنفسه؛ لأن الخلة لا تسمح لصداقة غيره معه، كما أن عود التخليل بين الأسنان لا يسمح لعود آخر معه، ومنه الحديث:(لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، والأنبياء كثر، وسيدهم وخاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن لما جاءت الخلة لإبراهيم لم يكن هناك خليل آخر لخليل آخر، وهكذا العادة بين البشر، فإذا اتخذ الإنسان خليلا لم يبق في قلبه مكان لخليل آخر، إنما هو واحد فقط.
والتنبيه على التخليل على ما بين الأصابع مع إسباغ الوضوء هو لأن نعومة الأصابع -وهي تلك المناطق اللينة- ربما يتراكم فيها شيء من العرق، أو ما يخرج من الجسم، أو الدهون، خاصة أصابع القدمين، وإذا تراكم شيء من ذلك كانت فيه مضرة على الجسم بسد المسام في هذه المناطق، فكان من فطرة الإسلام ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه على تلك الأماكن، وأن يؤكد على أن نظافتها جزءٌ من الوضوء، وإسباغٌ وتكميل للوضوء.
وذكر الفقهاء في كيفية التخليل صوراً هندسية الله أعلم بها.
قالوا: يجب أن يكون تخليل أصابع القدمين بخنصر اليد اليسرى لا باليمنى، أما أصابع اليدين فكيفما كان، ولو أن يدخل الأصابع بعضها في بعض، وسواءٌ أكان ببطن الكف أم بظاهره، فعلى أي صورة كانت فقد حصل التخليل، إلا أنه في القدمين الغالب والعادة -خاصة لمن يلبس الحذاء الساتر للقدم، أو الشراب- أن يكون بين أصابع القدمين روائح، فقالوا: نظافة القذارة أو ما يعلق في الجسم مختص باليد اليسرى، وأما ما عدا ذلك فهو لليد اليمنى، ولهذا قالوا: يكون تخليل أصابع القدمين باليد اليسرى، وبالخنصر؛ لأنه أرفع الأصابع وأدقها، وأيسر أن يمر وأن يخلل بين أصابع القدمين لتقاربها وتناسقها.