وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها.
وقوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران:٩٧] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة: لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك.
وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة لحرمتها.
فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛ لأن قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران:٩٧] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر.
وبعض العلماء يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة.
وكذلك قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟ قال بعضهم: يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ( {إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه) .
وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي.
والذي يهمنا في هذا الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.