[صدقة المرأة على زوجها وأولادها]
وهنا ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن مسعود أنه ذكر لزوجه زينب أن صدقتها عليه وعلى أولادها منه أولى من الغريب، وسياق هذا الحديث: أن زينب بعد صلاة الصبح ذهبت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عند الباب امرأة حاجتها كحاجتها، فجاء بلال، وقالت له: قل لرسول الله: زينب في الباب، فلما ذكر ذلك لرسول الله قال: أي الزيانبِ؟ يعني: أية زينب تعني؟ وهذا تعليم نبوي، فعلى الإنسان إذا عرف نفسه أن يعرِّف بما يكشف عن شخصيته، كمن يطرق الباب، فيقال: من؟ فيقول: أنا، (أنا) هذا ضمير للمتكلم، كل متكلم يقول: أنا، فإذا قيل: من أنت؟! فينبغي أن يقول: فلان ابن فلان، وهنا كذلك: لما قال:: زينب، قال: أي الزيانب؟ فالزيانب كثر، وهي كانت قد قالت: (ولا تسمني له) ، لكن لما سأله، من هي؟ قال: زينب، استجابة لطلب رسول الله، فقال: أي الزيانب؟ فهي أرسلته ليسأل لها، وهنا في الرواية أنها سألت مباشرة، وسواءً كان السؤال منها مباشرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان السؤال لها من بلال، أي: بالواسطة.
وقولها: (عندي حلي) جاء في كتاب الأموال: أنه كان عندها طوقٌ من ذهب تزكيه كل سنة، حتى أخذ عليها أكثر من قيمته، ثم جاء هذا التساؤل، فقال لها ابن مسعود: إن زكاةَ مالك وصدقتك عليَّ وعلى أولادي منكِ؛ أولى من الغريب، فهي استبعدت أن تتصدق على زوجها وولدها؛ ومعلومٌ عند الجميع أن الصدقةَ لا تجوز للأصل وللفرع، يعني: لا تصح على الأبوين ولا على الأولاد؛ لأنهم إن كانوا محتاجين فنفقتهم واجبة من رأس المال، وإذا تصدق على أبويه أو على أولاده فكأنه يؤدي واجباً عليه من صدقة هي حقٌ المساكين، فترددت في ذلك، فقالت له: اسأل رسول الله، فقال: اسأليه أنتِ، فسألت، فقالت: (عندي حلي أردت أن أتصدق به) ، وظاهر هذا اللفظ أنها تتصدق بعين الحلي، ولكن رواية أبي عبيد في الأموال: أنها تريد أن تتصدق، أي: تخرج زكاة حليٍ عندها.
وهنا سؤال: كيف لا يجوز للرجل أن يتصدق على زوجه وعلى أولاده، ويجوز للمرأة أن تتصدق على زوجها وأولاده منها؟ قالوا: إن هذا تابعٌ لوجوب النفقة، فالزوجة إذا كانت غنية غير ملزمة بنفقة زوجها، وهي حينما تعطي الزوج، لا تسقط حقاً واجباً عليها، وكذلك إذا أعطت الأولاد، لكن والزوج إذا امتلك الصدقة أنفقها على الأولاد، بل وعليها هي نفسها، فالزوج يأخذ الصدقة من زوجته، فإذا ذهب واشترى بها طعاماً، وأتى به إلى البيت، وأكل الجميع -ومنهم الزوجة- فلا مانع من ذلك؛ لأنها حينما أعطتها أعطتها بحق، وحينما أكلتها أكلتها بحق، وهو حق الإنفاق ثابت لها على زوجها، كما قالوا: في صدقة الفطر أو صدقة المال: لو أنك أعطيت جارك زكاة الفطر تمراً تعرفه من تمر بستانك، ثم جئت تزوره في العيد، فقدم لك القهوة والتمر، فنظرت! فإذا التمر الذي قدمه إليك من تمرك أنت، هل تقول: أنا لا آكل الصدقة؛ لأن العائد في صدقته كالكلب؟ لا، أنت لم تعد فيها، ولكنها وصلت محلها، واستلمها مستحقها، ثم قدمها إليك باسم الإكرام.
ومن ذلك ما وقع في قصة بريرة: (لما دخل صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطوني الغداء، فأعطوه خبزاً وإداماً، قال: ألم أر البرمة فيها لحم؟! قالوا: هذا لا يصلح لك، إنه لحمٌ تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: هو لها صدقة، ولنا منها هدية) ، أي: بريرة أخذته باسم الصدقة، أما أنا ما أخذت صدقة، لكن بريرة ستقدمه إلي باسم الهدية.
إذاً: العين واحدة لم تختلف، ولكن اختلف الاعتبار، فباعتبار الصدقة من المتصدق إلى بريرة هي في مجال الصدقة، وباعتبار نقلها من بريرة إلى رسول الله، فهي هدية بريرة ليست متصدقة على رسول الله، إنما تهدي إليه، فاختلف القصد، واختلف الحكم.
وكذلك الزوج لا يعطي صدقته لزوجته؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه، وكذلك أولاده، لكن هي كزوجة لا تجب عليها النفقة لا للزوجِ ولا للأولاد، فأعطتها للزوج.
وإذا كانت الزوجة غنية، والزوج فقيراً، وبينهما أولاد، ولا يستطيع الزوج أن ينفق على أولاده، فهل الأم تنفق على الأولاد لغناها أم لا؟ هذا بحث يتطرق إليه الفقهاء، ويختلفون في ذلك، قالوا: إذا لم تنفق الأم الغنية عليهم، مات الأولاد من الجوع، وهل يذهب الزوج يتدين؟ لا، بل عليها أن تشارك في مثل هذه الحالة، أو تنفق عليهم ويكون ديناً عليه.
الذي يهمنا هنا أنها كزوجة لا تجب عليها النفقة للزوج ولا للأولاد، فصح منها الصدقة عليهم، والقاعدة: لا تصح الصدقة على من تجب عليك نفقته، وإن كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يجوِّز ذلك في الأخ والعم ونحوه، والأخ يختلف: إذا كان بينك وبين الأخ توارث؛ فلا يصح أن تتصدق عليه، وإذا لم يكن بينك وبينه توارث، فإنك تتصدق عليه؛ لأنه إن كان للأخ ابن فهو يرثه، ولا صلة لك بإرثه، فلك أن تتصدق عليه، أما إذا كان يرثك وترثه فإن الغرم بالغنم، فكما أنك ترثه إن مات غنياً فتنفق عليه إن كان فقيراً.
فتتعلق الصدقة على الآخرين بقاعدة: من وجبت عليك نفقته لا يصح أن تعطيه صدقة.
لأنك تكون كأنك تجبر ما وجب عليك من النفقة بما تعطيه من الصدقة، وهنا لما قالت: (إن ابن مسعود قال لي كذا، قال لها صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود) ، أي: يجزئكِِ ويجوز لكِ، وقيل: إن الصدقة على الغريب صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصلة، أي: وصلة رحم، وفي الحديث: (ابدأ بمن تعول، ثم الأقرب فالأقرب،) ، إذاً يجوز أن تتصدق المرأة على زوجها وأولادها منه.