يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، وبالتالي {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ}[البقرة:١٩٧] ، والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث ممنوعاً؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة، وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام، فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا تهذيب للنفس.
وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال؛ لأن الشاة التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل.
قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده إلى مال أحد من المسلمين بغير حق؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره لحرمة التحريم.
إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.