وقد جاء في الموطأ حديثٌ غريب، وهو من أقوى أدلة تفضيل سُكنى المدينة والموت فيها على مكة -والناس يغفلون عن ذلك- جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان جالساً في البقيع وهم يحفرون قبراً لميت، فجاء رجل ونظر في القبر وقال: بئس مضجع الرجل! فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت يا هذا! قال: يا رسول الله! إنما عنيت الجهاد في سبيل الله! -يعني: أريد أن يقتل في سبيل الله، فتلك هي نعم الميتة- قال: لا، ما من بلدٍ أحب إليَّ أن يكون قبري فيها منها)(منها) أي: المدينة.
فيكون قوله:(وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تحقيقاً لهذه المحبة وهذه الرغبة، وقد تحققت، فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه قُبض صلى الله عليه وسلم في حجرتها، وجاء الصديق رضي الله تعالى عنه: ما قبض الله روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه؛ فدفنوه في حجرة عائشة.
ولما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها موت الصالحين من الأمم، ذكرت أنه كان إذا مات الرجل الصالح فيهم بنوا على قبره واتخذوه مسجداً؛ قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره مع الموتى؛ لكن لم يبرز قبره مع عامة الناس حراسة للعقيدة وحمايةً للتوحيد، وقد قبر في حجرة عائشة.
ومن هنا يتكلم العلماء عن فضل البقيع بالذات -بقيع الغرقد-؛ لأنه جاء النص بالاستغفار لهم وزيارتهم خاصة، فقد جاء عن أبي بن كعب قال: إنا لنجدها -أي البقيع- في التوراة تسمى كفتة؛ لأنها تؤخذ فتكفت بما فيها في الجنة.
وجاء في الحديث (إن أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة القبور الثلاثة المشرفة، ثم يليهم أهل البقيع، ثم يليهم أهل المعلاة في مكة، ثم عامة الناس) ثم جاء الحديث (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فمن مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) قالوا: قوله: (أو) ليس للتخيير ولكن للتنويع، أي: شهيداً لمن حضرته، شفيعاً لمن كان من بعدي.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بكرامة عباده الصالحين، وأن يختار لي ولمن يرغب البقيع إن شاء الله.