[لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق)]
الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر الخطبة، فهل تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ق) ؟ الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم الجمعة؟ فهاتان الجهتان هما موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث النبوي الشريف.
أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة فلا تعارض بينهما؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي ويدرك الركعة الأولى، فإذا كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات، فمعناه أنها بالنسبة إلى سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة.
ثم هل كان صلى الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه السورة؟ فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة.
وهنا يقال: إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من صدئها، وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:١٦] ، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:١٦] ، فترك الموعظة يترك القلوب تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير القلوب رطبة بذكر الله، ولذا جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:١٧] ، فكذلك يحيي القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون مع الموعظة التوجيه والإرشاد.
وقد كانت الخطبة تستعمل لغير الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ أمراً أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر) ، فيحضرون ويجتمعون فيخطب، فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) ، ويبين صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل إعلام، وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة الجمعة، بل تعالج في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك، وأصبحت معالجتها في النوادي والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا تعارض بينهما.
وفي قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله) نفهم منه أن أخذ القرآن كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة سبحانه، فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله بدون واسطة، وسمعه رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من رب العزة بدون واسطة.
وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه من المصحف قراءة، بل لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام القراءة، لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن تلاوة وسماع.
وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنه قال: أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت اليهود والنصارى، قال: وما ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم يعترض على قراءة بعض.
فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت إلى حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد، وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ، وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل مصحف قارئ يقرئ الناس ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً.
وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر، والمنبر إنما صنع في السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها لهذه السورة الكريمة، وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.