قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به) رواه البخاري] .
لما انتهى صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة، ورجع إلى منى أين صلى الظهر؟ اختلف في ذلك، فمن قائل: صلى الظهر بمكة؛ لأنه دخل وقتها وهو فيها، ومن قائل: رجع إلى منى وصلى الظهر فيها، ومن قائل: صلى بمكة حينما دخل الوقت، ثم لما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم، وعلى كل فقد بقي أيام التشريق كلها في منى ولم يتعجل، وانتهى من منى برمي الجمار، ولما نزل من منى لينصرف إلى المدينة نزل بالأبطح، يقولون: فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح، وكيف صلى الظهر مع أن وقت الرمي بعد الزوال؟ قالوا: أخر الظهر حتى أتى الأبطح فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام، والأبطح كما نعلم هو: في جهة المعلاة، وكان يقال له: خيف بني كنانة.
وهنا سؤال عند العلماء في نزوله بهذا المكان (المحصب) أو (خيف بني كنانة) : هل هذا النزول من مناسك الحج ومن أعماله، أو أن هذا كان أسهل وأيسر للسفر؟ سيأتي عن عائشة أنها لم تكن تنزل فيه، وكانت تقول: إنما نزل بالمحصب ليكون أيسر لدفعه، أي: للسفر؛ لأنه يقع خارج مكة والنزول فيه أيسر من أن ينزل في الزحام داخل مكة، وهناك من يقول: إنما قصد النزول في هذا المكان ليشهد هذا المكان ذكر الله والعبادة والنسك، كما شهد كتابة الصحيفة الظالمة، تلك الصحيفة التي كتبت في مقاطعة بني هاشم، وعلقت بالكعبة؛ فهي إنما كتبت في هذا المكان، فكما شهد هذا الموضع في أوائل البعثة مشهد ظلم وجور بكتابة صحيفة المقاطعة فيه، فليشهد عوضاً عنه مشهد ذكر لله وعبادة إلخ.
إذاً: بات صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالأبطح كما بات عند الدخول بذي طوى، فهو عند دخوله مكة بات في أولها، ولما أصبح دخل مكة في النهار، وعند الخروج بات في أول مكة في الأبطح، وذو طوى في أولها من جهة المدينة، والأبطح في أولها من جهة منى، وكان هذا المبيت من باب التيسير، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تفعله بعد ذلك، وعلى ما قدمنا فهل هو جبلي ومصلحة للنفر، أو هو تتمة للنسك؟ القول الأولى أنه كان لمصلحة خاصة بعيدة عن النسك، ولا حرج على الإنسان إذا لم يبت فيه، فإن شاء استراح فيه وبيت، وإن شاء مضى إلى سبيله.
قال المؤلف رحمه الله:[عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك -أي: النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه.
رواه مسلم] .
أي: كان مكاناً أسمح وأريح لخروجه من مكة، بدل أن يدخل ويخرج من وسط البيوت.