[أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها]
قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث] .
أي: بأن استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية إلخ.
وهنا المؤلف ترك جزءاً هاماً من حديث جابر، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل، وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار، وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي والموفق.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) .
] ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق بها من عوامل الستر والحشمة.
فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) وذكر هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري، وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك) وسأل أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال: فتحلل) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه.
وفي الحديث أن علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي!) .
وهنا لما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟ جاء أن أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر، قيل له: على رسلك يا أبا موسى! لقد أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٦] لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) .
وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف، والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت لبيان التشريع؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول: يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم: يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند المتأخرين.
ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم تمنى، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) .
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم، على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ.
فكانوا يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:٣٧] .
فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقولون بذلك.
(فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة، وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد.
(فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة) الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون، ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟!) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء، فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه.
ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة) فأمره جبريل عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل.
ومن هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر، وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً وا