للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب استمرار بعض الناس في السؤال]

وقوله: (لا يزال الرجل يسأل الناس) ، أي: فهو مستمر في سؤال الناس، ولماذا هذا الاستمرار؟ هذا على قسمين: قسمٌ بدافع الحاجة، فالحاجة مستمرة وبالتالي السؤال مستمر، ولكن لا تكثراً، بل تكففاً أو تعففاً.

القسم الثاني: تعودًّا، أي أنه تعوَّد السؤال، وهذا كما يقول بعض الناس: من استمرأ السؤال وأخذه مرة ومرتين، ورضيت به نفسه، قل أن يترك ذلك، بل يستمر، وإذا أراد أن يمتنع صعب عليه الامتناع؛ لأنه وجد حلاوة الكسب بدون كدٍ ولا تعب، وهذه والله! ما هي حلاوة، إنما هي عين المرارة والغضاضة، لكن إحساسه الشخصي ذهب، وليس في وجهه مزعة لحم، كما يقول العوام: أراق ماء وجهه فلم يبقَ في وجهه ماء الحياء، فإذا كان الأمر كذلك، فسواء عنده، إن سأل أو لم يسأل، أعطاه الناس أو لم يعطوه، ابتسموا في وجهه أو تجهموا في وجهه، أصبحت هذه الأمور عنده عادية.

ومن زمن قريب سمعنا أو قرأنا في الصحافة اكتشاف بعض شخصيات لها مكانة، ينتهون من أعمالهم، ويذهبون يمتهنون السؤال! ووجدوا أن دخلهم من هذا أضعاف أضعاف راتبهم، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا: تكاليف الحياة زادت، ونحن نحتاج إلى مسايرة الناس! وأغرب ما سمعت في هذا أن أسرة كريمة جداً وقع بينهم نزاع، فقتل شخصٌ شخصاً من هذه الأسرة، وحكم بالقصاص، فجاء أهل القاتل وعرضوا على ولي الدم الصلح بديتين، بثلاث، بأربع، فامتنع؛ لأن ولي القاتل لا يهمه أن تتضاعف الدية عشرة أضعاف، فقال أبو المقتول: أنا أقبل دية واحدة لكن بشرط: أن يحصلها والد القاتل -ووالد القاتل ذو منزلة رفيعة في مجتمعهم- أي: بالسؤال من الناس، لا برصيده في البنك، ولا بما يملكه في بيته، ولكن يحصلها من القرش والقرشين والأكثر والأقل بسؤال الناس، قال: هذا صعب، وكيف أن يقف هذا الموقف، والناس يعرفونه؟ قال: يذهب إلى أي مدينة من المدن التي لا يعرفه فيها أحد، ويأتي بها بهذه الطريقة، قال: متى أجمعها؟ قال: حتى بعد عشر سنين، أنا راضٍ بهذا، وأمام هذا النزاع وخطورة هذه القضية وافق الرجل، وكان بعد أن ينتهي من وظيفته يذهب إلى مدينة لا يعرف فيها، ويلبس لباس السائلين، ويتكفف الناس، وفي زمنٍ قريب جداً جمع الدية، فسلمت وجرى الصلح، ثم بعد ذلك فإذا بالرجل على طريقته، يذهب إلى بعض المدن ومعه لباس السائلين، ويسأل الناس، فجاءوا إليه، وقالوا: ماذا تفعل؟ قال: لا أستطيع أن أترك هذا، وقالوا لفلان: لمََ طلبت هذا الطلب، وقد عرضت عليك الدية مضاعفة؟ قال: أردت أن أقتله قتلةً وهو حي، فيبقى بهذه الحالة؛ لأني أعلم أنه إن استمرأ سؤال الناس لا يترك ذلك أبداً.

ولهذا -يا إخوان- الشخص في أول مرة: إذا أصيب بحاجة أو بفاقة، ثم مد يده، ووجد من يعطيه، وكثر في يده ذلك، وقضيت حاجته، إن كان ذا نفسٍ كريمة ووجهٍ حيي اكتفى بذلك وكفَّ حالاً، وإن مات إحساسه، ومات شعوره، وأريق ماء وجهه، فإنه يستمرئ ويعيش بها.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله) ؛ ففي هذا إبقاء على شخصيته، وإبقاء على معنويته، وإبقاء على إحساسه وشعوره، حتى لا يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ، يعني: تهلهل لحم وجهه بسبب مده يده إلى الناس، فمات إحساسه، ومات شعوره، ولهذا تجد بعض السائلين -نسأل الله السلامة- يأتيك فتقول: والله! الآن ما عندي فكة، يا أخي: كذا يا ابن الحلال! أنا الآن ما أنا مستعد، أنا قادم للمسجد، ما أنا قادم للصدقة، لا يخفى عليك أني ما أتيت بشيء من المال، وكأنه يطالبك ديناً ويفترض عليك أن تدفعه إليه، كان يكفيه الإشارة، لكنه تعود، وصار السؤال مهنة له! إذاً: التربية النبوية والتربية الإسلامية لمصلحة شخصية الإنسان نفسه، لأخلاقه، لإحساسه، لشعوره؛ ليبقى إنساناً كريماً فعلاً، ويبقى بعيداً عن مذلة السؤال، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل والاستغناء، ويكفينا أنه أرسل الشاب خمسة عشر يوماً إلى الجبل ليحتطب، وقال: (ولا أرين وجهك خمسة عشر يوماً) ، ويسمح له بالتخلف عن الجماعة في المسجد النبوي، ويذهب ويصلي هناك، وعنده مسجده وطهوره؛ ليحفظ ماء وجهه، وليحفظ كرامته، وليصونه عن مذلة السؤال، ونسأل الله السلامة والعافية!