[من أعطى بالله ثم غدر]
[ (رجل أعطى بي ثم غدر) ] .
رجل كان أو امرأة، وقال: (رجل) للتغليب، وربما لأن الرجال في العادة هم أكثر الذين يغدرون، وكانت العرب تتمدح بالغدر ونقض العهد، ويقولون: إن الذي لا ينقض العهد ولا يغدر بعدوه ضعيف، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، ويتمدحون بالغدر، ففي قول الشاعر: قُبيلة لا يغفرن بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما سمع عمر هذا، وقالوا: الشاعر هجانا وقال فينا كذا.
قال: والله إنه لنعم الحال! الظلم ظلمات يوم القيامة، فإذا كانت هذه القبيلة لا تظلم الناس حبة خردل فجزاهم الله خيراً، بل قال أكثر من هذا: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل قال: كفى بالأمر ضياعاً أن تأكل الكلاب لحومهم، ما عليكم أنتم؟! قالوا: لا، بل قال آخر: وما سمي العجلان إلا لقوله: خذ القعب أيها العبد واحلب واعجل فقال: خادم القوم سيدهم.
انظر إلى فطنة عمر! وعمر كان سفير قريش عند القبائل في التهنئة والتعزية.
بعض الناس يقول: عمر لا يفهم الكلام.
مجنون من قال هذا! عمر يقول: (إذا جاءتك كلمة عن صديق لها خمسون محملاً في الشر، ومحمل واحد في الخير، فاحملها على محمل الخير) .
والشناقطة يقولون: من باع صديقه بخمسين زلة فقد باعه بيعة رخيصة.
يصبر عليه حتى يكملها مائة! نحن الواحد منا إذا أخطأ صديقه أو زل بشيء مرة أو مرتين قلنا: هذا ليس فيه خير، ونقاطعه وينتهي الأمر.
وهذا لا ينبغي.
هتلر في الحرب الأخيرة لما أراد أن يقاتل الأسبان قالوا له: بيننا وبينهم معاهدة.
قال: هي حبر على ورق.
يعمل بها في السلم، أما الحرب فلا توجد عنده معاهدات.
والذي يحمله على هذا؟ ما كان لديه من قوة.
فهنا المولى سبحانه وتعالى خصم لثلاثة؛ أولهم: (رجل أعطى بي) أعطى ماذا؟ قالوا: أعطى العهد، أعاهدك بالله على كذا، فائتمنه لعهد الله.
(فغدر) : هذا الغادر هل غدر بصاحبه أو بالعهد الذي أعطاه؟ غدر بصاحب العهد، رجل أعطاك عهده وقبلته منه، وعاملك على ذلك، فأنت غدرته، كأنك لا تبالي بعهدي، ولا بحقي وأنا المنتقم الجبار! وحينما يكون يوم القيامة، ويأتي الطرفان، من الخصم في قضية نقض العهد؟ الله، ومن هنا -أيها الإخوة- وإن كنا في أحكام الفقه، لكن لابد من بيان جانب العقائد في مثل هذه الأحاديث، نقرأ في العقائد: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، نحن نتكاثر هذه، والشرك ظلم عظيم! ابن مسعود يقول: (لأن أحلف بالله كاذباً أهون علي من أن أحلف بغير الله صادقاً) .
لأن الحلف بالله كذباً معصية وقد أتوب منها وأستغفر وأتوقف والله يرحمني، لكنه بغير الله شرك.
وكيف يكون الحلف بغير الله شركاً؟ هذه مهمة لطالب العلم، فهي ليست مجرد عبارات تسطر لا، أين نقطة الشرك هنا؟ نحن نعلم أنه إذا رفعت القضية إلى القاضي، وأنكر المدعى عليه، طالب القاضي المدعي بالبينة.
وهذه هي العدالة، فيأتي المدعي فيقول: هذا صديقي، وأنا ائتمنته، وما ظننت أنه سوف يخونني أو ينكرني، حتى أنني ما رضيت أن آخذ عليه سنداً ولا أشهد عليه شهوداً، بيني وبينه وبين الله.
فحينئذ المدعي خلو اليدين، فهل تنتهي القضية على هذا؟ لا، ماذا يقول المدعي؟ يقول: حلفه يمين الله أن دعواي كاذبة، وأني ما أعطيته، فيقول له: تحلف يمين الله أنك ما أخذت منه المبلغ الذي يطالبك به فيقول: نعم، أحلف.
فلسفة اليمين هنا: المدعي خلو اليدين من بينة يقيمها على خصمه، ورجع إلى الله، واستشهد بمن لا تخفى عليه خافية، وقال: يا شيخ! شاهدي الوحيد المطلع على ذلك هو الله، فليحلف لي بالله أنه لم يأخذ مني.
فحينما يتوجه المدعى عليه ويقول: والله! لم آخذ منه شيئاً.
معنى هذا: أنت يا أيها المدعي عجزت عن شهود من الخلق، وجئت بشاهد واحد هو الخالق المطلع على حقيقة الأمر، وحلف بالله أنه لم يأخذ منك شيئاً هنا حكم القاضي ببراءة المدعى عليه وصرف النظر عن دعوى المدعي لعجزه عن الإثبات، وحلف المدعى عليه اليمين.
هذا جهد القاضي، ولكن حقيقة القضاء هل تنتهي هنا أم يعاد النظر فيها يوم القيامة؟ يعاد النظر فيها يوم القيامة.
وهنا كيف كان الحلف بغير الله شركاً؟ لأن الحلف بالله والله وحده هو الذي يعلم الحقيقة، والله وحده هو الذي يعاقب الكاذب ويقدر على ذلك، لكن لو حلفت بجبريل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة وجميع الرسل هل يعلمون الغيب في هذه القضية؟ هل يعلمون حقيقة الدعوى؟ لا؛ فكأنك حينما تحلف بغير الله جئت بغير الله محل الله، وادعيت أنه يعلم الغيب في القضية.
والأمر الآخر: يوم القيامة: هل هؤلاء يستطيعون أن يعاقبوا الكاذب؟ لا يملكون ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦] ؛ فأنت بحلفك هذا أنزلتهم منزلة الله في عقوبة الكاذب، إذاً أشركت مرتين: في إعطائك المحلوف به علم الغيب، وفي إعطائك إياه حق الانتقام وأخذ الحق لك وهو لا يملك ذلك.