[الاختلاف في روايات مدة قصره صلى الله عليه وسلم وجمع الإمام البيهقي بينها]
قال المصنف: [وفي رواية لـ أبي داود: سبعة عشر، وفي أخرى خمسة عشر] .
ما صنعه البيهقي رحمه الله هو -كما يقال- منهج علمي لطالب العلم ليخرج من مأزق اختلاف الروايات بما يمكن من الجمع بينها، فقد ورد: (تسعة عشر، سبعة عشر، خمسة عشر) فما هي الحقيقة؟ الكل حقيقة، باعتبار احتساب يومي الدخول والخروج في العدد، أو إسقاطهما، أو إسقاط أحدهما، وبقيت الخمسة عشر على أصول علم الحديث شاذة؛ لأنها خالفت الثقات.
ونظير هذا أيضاً في الحج: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس: عجبت من أمر الناس، لم يحج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وأراهم يختلفون من أين أهلَّ، فمن قائل: أهلَّ في مكانه وفي مصلاه في ذي الحليفة، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحتله، بعد ما صعد الناقة وقامت ونهضت، ومن قائل يقول: أهل بالبيداء، والبيداء المحل المرتفع فوق ذي الحليفة بمسافة قريبة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك، أهل في البيداء، وعلى راحتله، وفي مصلاه، والكل صادق! هذه مواطن مختلفة، ومن قواعد الخلاف اختلاف الزمان والمكان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا أخبرك، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح أو الظهر -على خلاف في الروايات- وأهلَّ من مصلاه، فسمع ذلك قوم وأخبروا بما سمعوا، فلما ركب راحلته ونهضت به أهل، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا، ولم يكونوا سمعوا ما قبلها، فلما استوى على البيداء أهلَّ، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا ولم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، والكل صادق.
ولا معارضة في ذلك.
وعلى هذا فالواجب على طالب العلم حينما يمر بحديث ويأتي حديث آخر فيه شبه التعارض مع الحديث الذي مر عليه، فلا ينبغي أن يستقل بنفسه، ولا أن يقف بين الحديثين موقف المتردد أمام نصين شبه متعارضين عنده، وواجب عليه شرعاً ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يرجع إلى ذوي الشأن، وهم العلماء الذين جمعوا أطراف الأحاديث، ونظروا في الخلاف بينها، ثم جمعوا بين المختلف وبينوا لنا المنهج والطريقة، وهذا هو الذي يسلم به طالب العلم ويكون على بينة من أمره.
قال المؤلف: [وله عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (ثماني عشرة) وله عن جابر رضي الله عنه: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ورواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله.
] الرواية المشهورة في تبوك: أنه مكث عشرين يوماً، سواء اختلف في وصله أو انقطاعه؛ فإن الروايات الأخرى عن ابن عباس وغيره أنه مكث عشرين يوماً، وإذا وقع خلاف في العدد فيكون على ما جاء في خبر مكة: تسعة عشر، ثمانية عشر، سبعة عشر إلى آخره.
إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كانت للجهاد وكان قد علم الروم جمعوا وأنذروا وتواعدوا في تبوك، ونعلم أن تبوك هي منطقة الحدود بين الحجاز وبين الشام -موقع الروم- لأنه ليس بعد تبوك إلا الشام، فخرج صلى الله عليه وسلم حسب الوعد، في حالة شدة وحرارة، وقد بدأت الثمار بالنضوج وعنايتها مطلوبة، والناس يعانون من قلة ذات اليد، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى تجهيز الجيش، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه وقدم المئات والآلاف من الإبل بأقتابها ولوازمها، وقيل: جهز جيش العسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل اليوم) .
ويهمنا أنه خرج صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إلى تبوك، وكان من عادته صلوات الله وسلامه عليه في الغزوات إذا أراد غزاة أن يوري بغيرها، فإذا أراد أن يغزو في الشرق يتساءل عن أحوال أهل الغرب، وإذا أراد أن يغزو في الغرب يتساءل عن أحوال وعن طرق أهل الشرق، حتى يظن الناس أن عنده سفرة إلى الشرق وهو يريد الغرب، وهذا كما يقال: من السياسة في الحرب، والحرب خدعة، وكما جاء في فتح مكة: اللهم عم عليهم الأخبار؛ حتى باغتهم في مكة.
هكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم إلا هذه الغزوة؛ لطول المسافة، ولشدة الجهد وشدة الحر، أعلمهم قبلها بشهر، فقال: الموعد إلى تبوك في الوقت الفلاني، فأخذ الناس يتجهزون عياناً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ومكث فيها عشرين يوماً ينتظر الروم، فلما بلغه أن الروم لن يأتوا قفل راجعاً إلى المدينة.
هذه الغزوة كانت غزوة مباركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالح كل القبائل التي في طريقه وحولها، فأمن الحدود بالصلح مع تلك القبائل، ورجع بسلامة الله، والحمد لله.
والدارس لهذه الغزوة يجد أشياء عديدة: منها المبشرات: لما رأى أحداً من بعيد أسرع وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) ، ثم كانت حادثة مسجد الضرار، وأرسل صلى الله عليه وسلم من سبقه إليه فأحرقه على قضايا كانت قبل الذهاب وقبل الخروج.
ويهمنا هنا: مكثه صلى الله عليه وسلم في تبوك، فقد كان على غير تحديد للمدة؛ لأنه كانت ينتظر العدو، ولم يعلم متى يأتي هذا العدو، والله تعالى أعلم.