[معنى قوله: (إن شئت حبست أصلها)]
(إن شئت) ، يدل على أنه ليس بإلزام، بخلاف الزكاة فليس فيها مشيئة المزكي، فهي حق للسائل والمحروم، أما هنا فتبرع وصدقة، فقال: (إن شئت حبست أصلها) ، وهذه من صيغة الوقف: حبَّستُ، أوقفتُ، وقَّفتُ، سبَّلتُ، كل هذه صيغ يحصل بها الوقف، ويختلفون في كلمة تصدقت؛ لأنها تصدق على الصدقة بتمرة، وعلى الصدقة لجهة ما، وتصدق على الوقف؛ لأنه صدقة جارية، لكن إذا جاءت قرينة تدل على أنه أراد بكلمة (تصدقت) معنى أوقفت؛ فلا إشكال.
وقوله: (إن شئت حبست أصلها) ، يدل على أن الوقف لا يكون إلا لما له أصل يبقى، وتؤخذ منه منفعة، فالطعام لا يكون وقفاً بل صدقة؛ لأنه ليس له أصل يوقف، وتؤخذ منه منفعة كل سنة بل يذهب، والغرس المثمر يصح وقفه، والغرس غير المثمر لا يصح وقفه؛ لأنه لا فائدة فيه للموقوف عليهم، إلا إذا قلنا: ينتفع بها بأن يؤخذ منها حطب، ويباع وينبت غيره، كما كان الحال في المدينة، يؤخذ الخشب من شجر الطرفاء، وكانت الطرفاء وجذوع النخل هي أدوات البناء والسقف.
إذاً: يؤخذ من قوله: (حبّست أصلها، وتصدقت بها) ، أن الذي يصح وقفه ما اشتمل على الأمرين: الأصل والثمرة، فيحبِّس الأصل ويسبل الثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، والتصرفات التي تنقل ملكية العين لا تجوز في الوقف، وألحق الفقهاء بها الرهن؛ لأن الغرض من الرهن توثيق الدين، فإن وفّى المدين دينه فالحمد لله، وإذا لم يوف دينه بيع الرهن، والحال أنه وقف، والوقف لا يباع، إذاً: لا يرهن.
فمعنى قوله: (حبّستَ) : أن يبقى في محله محبوساً عن التصرفات التي تعتري الأملاك، فلا ينتقل إلى أحد ببيع، أو بهبة أو بميراث، وكذلك لا يرهن؛ لأن المرهون معرض للبيع وفاءً للدين.
وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، رد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر لـ عمر ليتصدق هو؛ لأنه المالك، فتصدق بها عمر على أن الأصول لا تباع ولا تورث ولا توهب.
(فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) .
الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف التبرر لعمل البر، والوقف الأهلي الذي يوقفه على أشخاص معينين، فيقول: هذا وقف على فلان، ويسميه باسمه، ومن بعده إلى أخيه فلان، ومن بعده إلى عمه فلان، فهذا وقف أهلي.
والوقف الخيري يجري لمن عين له بالوصف، والوقف الأهلي إذا وصلت ثمرته إلى من هو موقوف عليه تعامل معها معاملة المالك، فلو وقّف هذه النخيل على ثلاثة أشخاص، فلما جاءت الثمرة قسمناها على الموقوف عليهم، وكانت حصة كل واحد منهم نصاب زكاة (خمسة أوسق فأكثر) فعليه أن يزكيها، لكن وقف التبرر على المساكين أو على ذوي القرابة أو على ابن السبيل، لو أن الصنف الموجود ناله من الوقف بقدر نصاب زكاة؛ فلا زكاة عليه؛ لأنها صدقة عليه، بخلاف الوقف الأهلي.
ونسمع عن بعض الدول أنها غيّرت وبدلت في الوقف، فألغت الوقف الخيري، وبعضها ألغى الوقف الأهلي، وكنا نسمع أن حكومة بلد من البلاد الإسلامية العربية أرادت أن تلغي الوقف الأهلي، ثم إن رئيس تلك الدولة أوقف عشرة أفدنة على ولده، فتوقف المشروع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يبطلوا وقف رئيس الدولة، وكانت بعض الحكومات تحارب الوقف في الماضي، وكذلك في الوقت الحاضر بعض الدول ألغت الوقف فعلاً، ولم يعد هناك ما يسمى وقف، فأعادوا الأوقاف إلى أهلها، فإن كان الموقف حياً رجع إليه ملكه، وإن لم يكن موجوداً رجع إلى الورثة بحسب الميراث الشرعي.
وعمر رضي الله تعالى عنه وقّف أرضه وقف تبرر وقفاً أهلياً، وسنشرح ذلك جملة جملة.