كان صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم حانت صلاة الفجر، يقول المغيرة رضي الله عنه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وكان من عادته إذا كان في الفلاة بيعد حتى لا يراه الرائي، فتبعه المغيرة بإداوة من ماء، وتنحى عنه حتى قضى حاجته، ثم جاء يصب عليه الماء ليتوضأ، كما ذكر مالك في الموطأ: شرع ليخرج يديه من كم الجبة فضاق الكم عليهما، فأخرجهما من تحت الجبة، وغسلهما، وهذا يعني: أن الكم الضيق موجود من قديم، لكن ليس بـ (الكبك) الذهب أو الفضة.
يقول المغيرة رضي الله عنه:(فأهويت لأنزع خفيه) ، من أجل أن يغسل القدمين، وهذا من باب المساعدة في الطهارة أو في الوضوء، وخاصة لذوي الشأن فلا بأس في ذلك، (فقال: دعهما) ، أي: اتركهما في مكانهما في القدمين، (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، فقوله رضي الله تعالى عنه: فأهويت لأنزع الخفين من قدميه صلى الله عليه وسلم، أي: ليغسل القدمين على ما هو الأصل، فنهاه صلى الله عليه وسلم، أو أمره ألا ينزعهما، وأخبره بما يتم المسح به:(فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، وتتمة الحديث -ثم نعود إلى محل الشاهد-: أنهما أتيا القوم فوجدا أن القوم استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي الخبر بأنهم ترددوا ماذا يفعلون، فقد جاء وقت الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتهم، فهل ينتظرون حتى لو خرج الوقت، أم يقدمون واحداً منهم يصلي بهم، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً، لكن ليس موجوداً عندهم الآن؟ أخيراً استقر رأيهم على أن قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بظروفه، وهو في غيبته لا نحكم عليه بشيء، ونحن مكلفون بأداء الصلاة وقد جاء وقتها، فلنصل.
وهذا كما سبق التنبيه عليه في بعض المحاضرات في الجامعة الإسلامية للشيخ أبي الحسن الندوي، قال: هناك مواقف في الإسلام يتردد فيها المسلم بين الحكم العقلي وبين دواعي العاطفة، فذكرت له هذه القضية، فقال: نعم.
وهنا الصحابة رضي الله عنهم -حسب مقتضى العقل- يقولون: الصلاة واجبة فعلينا أن نصلي قبل أن يخرج الوقت.
ومنطق العاطفة يقول: ننتظر حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا؛ لأن صلاة أحدنا بنا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن أي الجانبين غلّبوا؟ أغلّبوا المنطق والعقل، أم غلّبوا العاطفة؟ قدّموا منطق العقل بأداء الصلاة في وقتها، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة والناس في الصلاة، وفي بعض الروايات أن المغيرة همّ أن ينبه الإمام ليرجع، وعند الفقهاء إذا تأخر الإمام الراتب وقدم القوم رجلاً منهم وحضر الإمام الراتب فهو أحق بالإمامة، ولو كان الذي قدموه صلى بعض الصلاة، فيأتي الإمام الراتب ويتقدم ويصلي بالناس، ويعتبر ما بدأ به بداية لصلاته، وهم يبنون على ما تقدم من صلاتهم، وكل يكمل صلاته، ثم هم يجلسون عند إتمام صلاتهم، وهو يقوم لإتمام ما فاته، ثم يسلم فيسلمون معه، فهنا كان من فقه المغيرة أن ينبه الإمام ليتقدم الإمام الراتب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من حقه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، وقال له: اتركه، وهذا أيضاً يدل على أن من حق الإمام الراتب أن يتنازل عن حق، ويقر من قدموه للصلاة بهم؛ لأن مدار الإمامة على رضا الجمهور، فإذا ارتضوا هذا الإنسان كان إمامهم، وعندنا حديث في المحراب:(تخيروا لوفادتكم؛ فإن إمامكم وافدكم إلى الله) ، الإمام وافدنا إلى الله، يتقدم بنا إلى الله، فينبغي أن يكون على أعلى مستوى؛ لأنه يسأل الله لنا، فيقول: اهدنا الصراط المستقيم.
ونحن نقول: آمين.
إذاً: من حق الإمام أن يتقدم ويأخذ مكانه، ومن حقه أيضاً ترك الإمامة لمن اختاروه، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المغيرة معه، وكان ابن عوف قد صلى ركعة وبقيت ركعة للجماعة، فلما أتموا صلاتهم سلموا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة يكملان ما بقي عليهما من صلاتهما، فلما رأى الناس رسول الله فزعوا، ولسان حالهم: كيف تقدمنا على رسول الله؟ وكيف يصير مأموماً وراءنا؟ فلما سلم وأنهى صلاته قال:(لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، ولو أننا أخذنا المسألة على مجرد أحكام، وعلى فقه، وعلى (يصح أو لا يصح) لانتهينا، ولكن كما يقولون: السنة كنز وافر.
وهذه العملية توحي بما وراء الصلاة، وتوحي بأمور عديدة جداً، لماذا ما قبض حتى يصلي خلف واحد من أمته؟ كون النبي يرضى أن يأتمّ بواحد من أصحابه، فإلى أي مدى وصل أصحابه؟ وإلى أي مدى أثمرت تربيته لأصحابه؟ وإلى أي مدى كان تأثيره في تنشئة هذه الأمة؟ كانوا أعراباً، فأصبحوا الآن أئمة، إذاً: هذا يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنوات التسع بعد الهجرة؛ لأن سنوات ما قبل الهجرة كانت سنوات كفاح، ومصادمات إلخ، لكن هنا في الحياة العملية، كأنه في تسع سنوات تخرج على يديه صلى الله عليه وسلم الآلاف من الرجال كل منهم يصلح أن يكون إماماً، ونظن أن الدنيا كلها ما شهدت مثل هذا الإنجاز! إذاً: ما دام أنه قد أصبح كل أصحابه صالحين للإمامة، فهو بذلك يكون قد أنهى المهمة، وأدّى الواجب؛ ولذا جاءت السورة الكريمة:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً}[النصر:١-٢] تكون قد انتهيت، فسبح بحمد ربك وتهيأ للقائه، كما قال ابن عباس: نَعَتْ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، لأنه إذا جاء نصر الله، وجاء الفتح، وأصبح الناس يدخلون طواعية في دين الله أفواجاً، فما الحاجة بعد هذا لرسول يقوم فيهم؟ انتهت المهمة، إذاً يتهيأ لملاقاة ربه؛ لينال الجزاء الأوفى على رسالته، وهنا يظهر معنى قوله:(ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلى خلف رجل من أمته) .