نرجع مرة أخرى: هذا جمل أعيى عن المسير، قال: أعطني عصا.
فضربه فإذا بالجمل يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ماذا كان في هذه العصا؟ لا شيء، فلم تكن عصا سحرية! ولم تكن عصا موسى! ولم يسقه شراباً، ولا لبناً، ولا سمناً، ولا أعطاه علفاً، مع أن هذه الأصناف هي موجبات القوة، إنما ضربه -والضرب منهك- فإذا به يأتي بنتيجة عكسية.
إذاً: هذه معجزة، ويقول السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم نظيرها: عصا موسى تفلق البحر، وعصا موسى تنقلب حية، وعصا موسى تفعل الأعاجيب، وهذه عصا تعطي البعير قوة، من أين جاءته هذه القوة؟ العصا ما فيها قوة، ولكن اليد التي ضربت جعل الله فيها البركة.
الزبير في غزوة الخندق ضرب شخصاً على رأسه فشقت غطاء الرأس، وشقت الرجل نصفين، ونزلت إلى الفرس فقسمته نصفين، فقال قائل: والله ما أجود سيفك يا زبير! قال: لا، الكلام ليس للسيف، الكلام على اليد التي ضربت بالسيف.
وكذلك هنا، ليست العبرة في عصا يقود بها جابر بعيره، ولكن العبرة باليد التي ضربت البعير، ونظير هذا: حينما دخل صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وأتى إلى الكعبة وكانت الأصنام التي حولها (٣٦٠%) صنماً، حوالي ثلاثمائة صنم، ومثبتة بالرصاص، وماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: ائتوا بسلم، ائتوا بمعول، ائتوا (بكمبريشن) ؟! لا، القضيب الذي في يده كان يشير به إلى الصنم، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا خر لوجه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر لقفاه، وهكذا قوضت تلك الأصنام بكاملها بإشارة من العصا! هل كان فيها أشعة (ليزر) تذيب الرصاص وتسقطه؟ وأليس هذا القضيب كان في يده صلى الله عليه وسلم حينما كان يصلي عند الكعبة وجاءوا بسلى الجزور ووضعوه على ظهره؟ بلى كان موجوداً، فهل فعل شيئاً من هذا؟! ألم يكن في يده حينما منعوه من دخول مكة عند عودته من الطائف، ولم يدخل إلا في جوار رجل مشرك؟ لماذا لم يكسر الأصنام أو بعضها بالعصا، ويبين لهم القوة؟! لماذا لم يفعل ذلك؟ لكل شيء أوانه، لو فعل في ذاك الوقت لقامت حرب أهلية، ولكن ماذا لو بقيت الأصنام على الكعبة سنة أو سنتين أو ثلاث أو عشر، وقد كانت معلقة على جدران الكعبة من عشرات السنين؟ وحينما يأتي الحق ويزهق الباطل ينتهي الأمر.
إذاً: هذه من المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وكما قال السيوطي: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها، فالحجر التي ضربها موسى فانفجر منها الماء {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ}[البقرة:٦٠] قد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة من جنسها، بل أبلغ منها، وذلك لما أتوا ليتوضئوا ولم يكن هناك ماء، فجاءوا بركوة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها، فنبع الماء من بين الأصابع، الماء يخرج من خلال الحجر أمر طبيعي {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}[البقرة:٧٤] هذه طبيعة الحجارة، لكن أن يخرج من بين اللحم والدم فيتوضئون عن آخرهم! هذا أبلغ.
إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يضرب الجمل الذي قد أعيى، فإذا به يعطى قوة! حتى يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم؛ تصديقاً لما جاء به من عند الله سبحانه وتعالى.