[هل ينتفع الميت بعمل الحي؟]
ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟ ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح ذلك مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل ذلك ويقول: لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور بين هذا وذاك، وقسموا أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى قسمين: عبادة مالية، وعبادة بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج، الجهاد، كل هذه من أعمال البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال: كالصدقة، سداد الديون، وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية.
نقل ابن عبد البر وابن تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن الميت ينتفع بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً، وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام ونحوه.
وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً- أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال: أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن على أمكِ- ديناً فقضيتيه، أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء الحج عن الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن الميت، فقالوا: إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين -ولو كانت عنده تركة تسدد الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد- فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط عنه الطلب، وبرئت ذمته.
وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، عليه دين.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه.
فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه ديناران.
فقال: صلوا عليه أنتم.
فقام أبو قتادة رضي الله تعالى عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي.
قال: في ذمتك؟ قال: نعم.
قال: برئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه لذويه) ، وصار صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال الصدقات.
إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء تصدق عنه بنقد أو بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة عن خديجة) ، وخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة ما كان يفعل ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة تلحق النسوة: خديجة خديجة حتى بعد الممات خديجة! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها أحد معه في أشد الحالات، عندما رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال: (زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي) ، ما جلست بجواره تبكي، ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها، فقالت له: والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل.
وأخذت تعدد من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي ألمَّ به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني زملوني) قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من قبلهم، ليتني كنت فيها جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك فأنصرك.
فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟!) قال: نعم، ما جاء أحد قوماً بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي.
فهذه هي خديجة! ولما اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب الكفار صحيفة المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة! لقد أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء) ، فشق عليها ذلك، وجمعت سادة قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد، والله! لا أسأله عن شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه.
هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل.
فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى.
قالت: قم فاجلس في حجري.
فقام فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي.
فقعد على فخذها الأيمن، ثم الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه، فحسرت عن رأسها -كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس شيطاناً، إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري) .
ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى جبل أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة؟! قالت: لي حاجة.
قال: أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر من قصب، لا نصب فيه ولا صخب.
فكان صلى الله عليه وسلم يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما لي لا أفعل ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟!) .
والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة.
إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد دين، أو أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.