واختلف الفقهاء في هذا الصاع، لماذا يُعطى، ومقابل ماذا؟ فقيل: مقابل الحليب الذي أخذه، ولكن كم أخذ من الحليب؟ فإن الصاع معلوم، وكمية الحليب مجهولة، فدخل القياس ودخل التقدير، وخاض الناس في أشياء كثيرة، وقيل: إذا كان الصاع قيمة للحليب، فهذا طعام بطعام، فكيف نبيع معجلاً بمؤجل؟ وكيف نقدره؟ فالصاع معلوم، والحليب غير معلوم.
وإذا قيل: هذا من باب المجاملة، وكيف تكون مجاملة وقد أخذ الحليب، ورد الماشية على صاحبها؟ ومن هنا قال بعض العلماء: إما أن يقبلها، وإما أن يردها من غير صاع؛ لأن ردها مع الصاع مخالف لقواعد البيع.
ولكن نقول: هذه صورة مستقلة من صور البيوع، ولها حكم مستقل، فإذا رددنا النصوص من أجل مغايرة صورة من الصور -هي بذاتها مستقلة- فسنبطل أشياء كثيرة، ولهذا فإن الذين منعوا الصاع في هذه منعوا القسامة في الدم، وقالوا: أساس القضاء أن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهؤلاء ادّعوا الدم، وحلفوا قبل المدعى عليهم، فكيف يدّعي ويحلف؟! فعليهم البينة، لا أنهم يدّعون ويحلفون.
وقد قيل لهم: هذا تشريع مستقل، وقيل أيضاً: إنه يتمشى مع قوانين القضاء السليمة؛ لأن اليمين جعلت في الجانب الأقوى، والبينة فيمن كان موقفه ضعيفاً، فإذا جئنا إلى المدعي والمدّعى عليه -في ألف ريال مثلاً- فادعيت عليه بألف ريال، فما هو الأصل بينكما؟ الأصل هو عدم وجود الألف، إذاً: المدّعى عليه معه البراءة الأصلية، وأنت ادعيت عليه بخلاف ذلك، فموقفه أقوى؛ لأن معه البراءة الأصلية، وموقفك أضعف؛ لأنك تريد أن تنقله من براءته إلى اتهامه، فعليك بالبينة.
وإذا جئنا إلى القسامة، فإن مدعي الدم جانبه أقوى؛ لأن القسامة لا تكون إلا مع اللوث والتهم القوية، فوجود التهمة في القتل؛ لوجود القتيل في محلة المدعى عليهم، ووجود العداوة السابقة، ووجود الوعيد، ونحو ذلك، فهناك قرائن اجتمعت بجانب المدعين، فيكون جانبهم أقوى، فيكون اليمين مع الأقوى، والذين ينفون عن أنفسهم القتل جانبهم ضعيف؛ لأن في بطنهم شيئاً، وكذلك هنا، يقال: هذه صورة بيع مستقلة، لا تقاس على غيرها، فإذا قستم كان قياساً فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنص الصحيح.
وخلاصة موضوع المصراة: أنه إذا اشتراها الإنسان ومكثت عنده ثلاثة أيام، فإن رضيها على ما استقرت عليه فذاك، وإن ردها، وسخط حليبها، فيرد معها صاعاً من تمر ومن طعام، إلا السمراء، وهي البر الشامي، فالتمر يكون مما تيسر ومما وجد، وسواء كانت المردودة شاة، أو ناقة، أو بقرة، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.