[نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن الصوم بعرفة]
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) ، رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي] قد تقدم الكلام عن صوم يوم عرفة بصفة عامة، وأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين: سنة ماضية وسنة آتية، أو السنة التي هو فيها، وسنة مقبلة، وكان ذلك على الإطلاق، وهنا جاء النهي عن صوم يوم عرفة لمن يكون في عرفة، وبين العلماء أن النهي عن صوم يوم عرفة للمعرف إنما هو مراعاة لظروفه، ورفقاً به؛ لأنه كما قالوا: يبدأ في يوم ثمانية -أي: قبل عرفة بيوم- فيصعد إلى منى، ويروي من الماء في البرك -وهذا كان في السابق- ثم يبيت بمنى ويذهب إلى عرفات، ثم في عرفات أعمال عديدة، فهو يصلي مع الإمام جمعاً وقصراً، ثم يأتي إلى الموقف، ومن بعد الصلاة من الزوال إلى أن تغرب الشمس وهو مشتغل بالدعاء والابتهال إلى الله في هذا اليوم العظيم، فإذا كان هذا هو شأن يوم عرفة، فهل يتأتى لإنسان صائم أن يقوم بواجب هذا اليوم، من الاجتهاد في الدعاء والمسألة والمسكنة بين يدي الله، فضلاً عن أنه إذا غربت الشمس وكان صائماً سينزل حالاً إلى المزدلفة ويبيت، ثم يصلي الصبح، ويذهب إلى المشعر الحرام فيذكر الله كما هداه، وقبل أن تشرق الشمس ينزل إلى منى، وبوادي محسر يسرع قدر رمية حجر، ويأتي إلى منى، ثم يرمي الجمرة، ثم يحلق شعره، وينحر هديه، وبعد الحلق والنحر يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، فهذا العمل الدائب لا يتأتى معه أداء مستوفى مع صوم يوم عرفة.
إذاً: كان الأولى أن يكون مفطراً في يوم عرفة ليتقوى بفطره على أداء واجبات هذا اليوم الفذ النادر في حياة المسلم، ثم وجدنا أن من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن صومه يكفر سنتين) ، أنه جاء إلى عرفات وهو مفطر، فقد جاء أنه قدم إليه قدح من اللبن بعد العصر فرفعه بيده والناس ينظرون فشرب.
إذاً: سيد الخلق وأقوى الناس في ذلك الوقت، كان مفطراً، وقد قال:(خذوا عني مناسككم) ، فكان يفعل الشيء وهو يحب غيره للتشريع والتخفيف على الأمة، لكن نقول: جاء في موطن آخر وقال: (خذوا عني مناسككم) ، والوقوف بعرفات أهم المناسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) .
إذاً: الأولى للإنسان إذا كان معرفاً في النسك أن يكون مفطراً، ومع هذا وجدنا أن بعض السلف كان يحب صومه، ويتأول ذلك ويقول: النهي عن صومه إنما هو لمن كان يضعف عن أداء الواجب، فإذا كان يجد في نفسه قوة ولا يضيره الصوم، فليجمع بين الحسنيين: الصوم والنسك، ولكن نقول: القوة نسبية والتشريع عام شامل لا يستثني فرداً عن فرد، وسيد الخلق قد أفطر، وهو أقواهم، وقد كانوا في القتال إذا اشتد عليهم القتال وحمي الوطيس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، ولما فروا يوم حنين ثبت ووقف وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وجميع القادة العسكريون حينما تشتد الأزمة يختفون؛ لأنه إذا ذهب القائد ذهبت المعركة، فيستتر ليديرها ويسترجع أنفاسه كما يقال، ولكن النبي صلى الله عليه يعلن عن نفسه! وعلى بغلته: أنا، أنا، سبحان الله! يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه، وهذا لا يكون إلا من القوة والشجاعة والثبات وشدة اليقين بنصر الله.
إذاً: نقول: إن الأولى بدون شك لكل مسلم حضر عرفات في نسك أن يكون مفطراً كما فعل صلى الله عليه وسلم.