أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رفع إليه معسر، فقال لغرمائه: أتعرفون له شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن احبسه! فقال: لا، وما الذي يعود عليكم بحبسه؟! فحبسه ضياع له ولكم ولعياله، ولكن أتركه يسعى في الأرض.
وهذا -والله- هو الحق، بخلاف ما يجري في إنسان يدعي الإفلاس، ويأتي بشهود بأنه لا يملك شيئاً، ومع هذا يحبس إلى أن يرفع أمره إلى الحاكم، وربما يحبس السنة والسنتين، فماذا استفاد بالسجن؟ كلف الدولة مئونته، وضيع من ورائه أهله، والغرماء لم يستفيدوا شيئاً! وأول قضية عرضت علي في المحكمة هي لشخص مطالب بثلاثين ألف ريال لبعض جيرانه، وكنت أعرفهم قبل القضاء، فقلت: أتعلم أن عنده مالاً؟ قال: لا والله! إني لأصرف على أهله وهو في سجنه، فقلت: فماذا تريد من سجنه؟ يا أخي! اتركه يخرج من السجن، ويكفيك مئونة أهله، أنت لك عليه دين وتصرف على أهله شفقة منك، فاتركه يخرج ليكفيك هذه المئونة لعله يفعل شيئاً، قال: ما أدري هل يرضى بقية الغرماء؟ فجمعتهم وكلمتهم، وذكرت لهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقالوا: ماذا تريد؟ قلت: أريد منكم أن تعطوه مهلة ليعمل فيها، وكان يعمل في البيع والشراء، وكان ذلك في شعبان، وقد قرب رمضان والموسم، فقلت: أعطوه مهلة ليحاول أن يسددكم بالتقسيط، فقالوا: وإذا لم يفعل؟ قلت: إذا ما فعل فالسجن موجود! اتركونا نعملها تجربة، فقلنا للمفلس: ماذا يا فلان؟ قال: أنا لا أريد إعلان إفلاسي؛ لأن التجار لن يتعاملوا معي بالدين إذا خرجت، فأعطوني مهلة وأستعين بالله، وطلب مهلة سنة ونصف، فقلت: لك سنتان، نصف سنة من عندي حتى توفي دينك، وسبحان الله! كان مقابل المسجد عمارة تحتها معارض، وليس كل إنسان يستطيع أن يستأجرها، فأملاها بالبضائع، والزبائن والحجاج يمرون من عندها بكثرة، والحركة عنده شديدة، فما مضى ستة أشهر إلا وقد سدد نصف الدين! فهذه الطريقة لماذا تتركونها؟! الآن يمكث الغريم سنة وسنتين وثلاثاً في السجن حتى يوفي دينه، فمن أين سيوفي دينه؟ السجن ليس محل اكتساب، فلو عومل الناس المدينين بهذه الطريقة التي يراها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لخفت المسئولية على السجون، وحفظت الأسر التي تضيع، وكانت سبباً لسداد الديون.
إذاً: المفلس إذا لم يجد ما يسدد دينه، فإدخاله السجن مفسدة لا مصلحة فيها، وهم يريدون بسجنه أنه لو كان عنده شيء يخفيه فسيظهره، ولو كان ذلك لأظهره من قبل، والذي يهمنا هي الناحية الشرعية في حق المعسر، قال الله:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:٢٨٠] ، أما إذا كان موسراً عنده المال، ويتأخر ويماطل؛ فهذا ظلم نفسه قبل أن يظلم الغرماء، وفعله هذا ظلم يحل عرضه بالكلام عليه وشكواه، ويحل عقوبته بحبسه، وإن لزم الأمر ضربه، وبعضهم يقول: الضرب ممنوع، ولكن الحبس إلى أن يبيع الحاكم من ماله ما يسدد حق الغرماء.
ويقولون: بعض الغرماء لا يملك حبس غريمه، كالولد لا يملك حبس أبيه في الدين لحديث:(أنت ومالك لأبيك) ، فإذا تعامل معه وأراد أن يأخذ من ماله فله الحق في ذلك لكن بشروط: ١- ألا يأخذ من مال الأكبر ويعطي الأصغر أو العكس؛ لأنه يكون قد ملك أحد الإخوة من مال أخيه بدون حق.
٢- ألا يكون مال الولد تعلق به حق الآخرين؛ بأن دخل مع أناس في شراكة برأس المال، فلا يذهب للشريك ويقول له: آخذ من حق ولدي؟ لا؛ لأنه مرتبط بمال الغير.
٣- ألا يكون الولد في حاجة لهذا المال في نفسه ولمن تلزمه مئونته.
٤- أن يكون الوالد محتاجاً له، وحاجة الوالد هذه يفرع عليها المالكية: في الضروريات والكماليات، سواء في الأكل والشرب واللبس، أو في الزواج إذا كان محتاجاً للزواج، وهل الزواج ضرورة أو حاجة أو ترفيه؟ على حسب حالة الأب، وهذه تفصيلات في حديث:(أنت ومالك لأبيك) .
إذاً:(مطل الغني ظلم) ، وللدائن الحق أن يشتكيه ويتكلم عليه، وللحاكم الحق أن يحبسه حتى يسدد ما عليه، ما دام أنه يوجد عنده يسار.