قوله:(أطيب الكسب) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة -ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام، أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك) ، وفي الحديث الآخر:(الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام) إذاً: حرمة المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب إلا ليتحروه ويعملوا به فماذا كان الجواب؟ قال:(عمل الرجل بيده) .
يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها.
وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني.
من هنا فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع وإنما يتابع الدراهم أين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}[الأنبياء:٨٠] ، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:١٠] نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده.
فالموظف في آخر الشهر، يذهب ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية، هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل: لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة: نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس.
لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس! إذاً: أطيب الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة وكذا وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس.
وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛ لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن، وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع الصناعة أو.
إلخ فهو كسب باليد.
إذاً:(سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده) .