[صلاة الجمعة فرض عين]
ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ) -فأكد الفعل، ولم يسم أحداً، والأقوام: جمع قوم (عن ودعهمُ) أي: تركهم (الجمعات) ، وفي لفظ: (الجمعة) بالإفراد، والجمع جاء فيه أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير عذرٍ طبع الله على قلبه) ، فجاء التحذير من ترك الجمعة مرة واحدة، وجاء التحذير من ترك الجمعة ثلاث مرات، فحديث الباب يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) ، فهم إما أن يتركوا ذلك، أو يكون الجزاء الختم على القلوب.
وهذا -والعياذ بالله- من وصف المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:٧] ، فهو وعيد شديد يتوعد به النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتركون الجمعة، فإما أن ينتهوا عن تركهم الجمعات، وإما أن يكون العقاب الختم على قلوبهم، والقلب إذا ختم عليه يكون الأمر ما جاء في قوله سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤] .
يقول العلماء: إذا أذنب العبد ذنباً ولم يستغفر منه نكت في قلبه نكتة سوداء، ثم لا يزال يذنب وتأتي نكتة إلى نكتة حتى يغلف القلب ويصبح كالكوز مجخيا لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
فإذا ختم على القلب شبه بالإناء الذي ختم فوه فلا يسمح بدخول خيرٍ ولا يخرج منه شرٌ؛ لأنه ختم على الشر فلا يخرج الشر منه ويظل صاحبه في شرٍ دائماً، ولا يدخل الخير إليه لأنه لا طريق لدخوله، فهذا وعيد شديد لمن لم ينته عن ترك الجمعة.
والقلب هو محل الذكر، وهو محل التذكر، وهو محل الإدراك، وهو محل الارتباط بالله سبحانه وتعالى، فإذا ختم عليه صار غافلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وحينئذٍ تكون البهائم خيراً منه؛ لأن قلوبها تدرك، ويكفي أن الجذع أدرك وآمن بأن هناك جنة.
وقد جاء في فضل يوم الجمعة من رواية مالك في الموطأ: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر حتى شروق الشمس إشفاقاً من يوم القيامة) ، فالبهيمة في يوم الجمعة تصيخ بسمعها من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مخافة يوم القيامة.
فالحيوانات تؤمن بالبعث، وتؤمن بيوم القيامة وتنتظره، وتعلم أنه في يوم الجمعة، وهؤلاء -عياذاً بالله- إذا ختم على قلوبهم لا يدركون شيئاً من ذلك، وأصبحوا من الغافلين.
الوعيد الشديد لا يكون إلا على ترك واجب.
ولذلك نقول: إن صلاة الجمعة فرض عين عند الأئمة الأربعة، وإن وجد من بعض أتباع بعض الأئمة من يقول بغير ذلك فمردود عليه من علماء مذهبه.
وهناك من يقول: صلاة الجمعة سنة مؤكدة، وهناك من يقول: فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وكل من قال شيئاً من ذلك فإن من علماء مذهبه من يرد عليه، ويأتي بنصوص الإمام بأن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم، وكما في صحيح مسلم: (صلاة الجمعة فرضٌ على كل من سمع النداء) ، ثم يأتي هذا العموم فيخصص منه المرأة والعبد والمريض والمسافر فتسقط عنهم الجمعة، وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك مجال للتساهل فيه.
وأجمعوا على أن الجمعة هي فريضة يومها وليست نيابة عن الظهر، ولكن من فاتته صلاة الجمعة بشروطها ولا يستطيع أن يتداركها؛ لأن الجمعة يشترط فيها المسجد والجماعة والعدد والخطبة، فإذا فاتت فإنه لا يستطيع أن يأتي بخطيب يخطب له، ولا بعدد من الناس يصلون معه، فلم يبق إلا أن يصلي الظهر لعجزه عن الجمعة وإدراك ما فات منها.
وقد يستغرب إنسان أو يريد الاطلاع على الرد على من يقول بأن الجمعة سنة مؤكدة أو فرض كفائي أو غير ذلك، والجواب عليه من علماء مذهبه، فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند آية الجمعة فإنه سيجد ما تيسر من النقول من كل مذهب ممن يقول بالوجوب، ومن يقول بغير ذلك، والرد عليه من أئمة مذهبه بذاته، وبالله تعالى التوفيق.