للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم العطية بين الزوجين]

ثم يأتون إلى العطية بين الزوجين، فقالوا: إذا أعطى الزوج زوجته عطية فلا يحق له أن يرتجعها، والقبض والإذن في ذلك حاصل لأنهما معاً في البيت.

والمرأة إذا وهبت لزوجها هبة، قالوا: من حقها أن ترجع ومن حقها أن تمضي؛ لما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (النسوة يهبن رغبة ورهبة) رغبة: تستجلب محبة الزوج، ورهبة: من أن يوقع بها ما يسوءها، ومخافة أن يتزوج عليها، أو أن يسيء عشرتها، أو أن يقصر معها فيما يفعل مع زوجاته الأخريات.

قالوا: لها أن ترجع؛ لأنه يتوجه إليها الرغبة والرهبة.

إذاً: الهبة بين الزوجين: فالزوج إذا وهب لا يرجع في هبته، والزوجة إذا وهبت لها أن ترجع في هبتها؛ لأن عندها علة ليست موجودة عند الزوج، وهنا عمرة طلبت من زوجها أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحته زوجها لولدها.

يقول ابن حجر نقلاً عن بعض العلماء: هذا من شؤم التشدد والتنطع، فلو أنها قبلت عطاء زوجها لولدها لمضى الغلام في عطية الوالد، لكنها تعنتت وتشددت وطلبت أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟) هذا كما يقولون: وجوب الاستفصال من المفتي.

إذا استفتاك إنسان وكان الموقف فيه احتمالات بين جواز الأمر أو منعه، فعليك أن تستفصل، فهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟ قال: نعم، قال: أكل ولدك منحته ذلك؟ قال: لا.

قال: ارتجعه) .

وقال: (لا أشهد على جور) .

وقال: (أشهد عليه غيري) كل هذه الألفاظ جاءت.

والذين يقولون: ليس للوالد الرجوع بالكلية في أي حالة من الحالات أجابوا عن هذه الألفاظ وهذه الروايات في هذا الحديث بأجوبة: أما عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري) يقول الشافعي: إن الرسول لم يعلمه بأن الهدية باطلة، ولكنه قال: أنا بصفتي رسولاً لا أشهد على مثلها، ويقولون: إنه كحاكم وقاض لا يكون شاهداً، وكما جاء عن عمر رضي الله عنه جاء رجل يحتكم إليه ويشتكي خصماً له، قال: ائتني بشهود، قال: أنت أحد الشهود، قال: أنا لا أكون شاهداً وقاضياً، إن أردتني شاهداً فتقاضى إلى غيري أشهد عنده، وإن أردتني قاضياً فأتني بشهود.

أي: أن الإنسان لا يكون في وقت واحد شاهداً وقاضياً.

وبعضهم يقول: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري، فإني لا أشهد على جور) يبدو والله أعلم لولا مجيء قوله: (لا أشهد على جور) ، وقوله: (أشهد عليه غيري) فيكون هناك توجيه لما هو الأفضل والأكمل؛ لأنه ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه، سأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: لا.

صلى، وإن قالوا: نعم.

قال: صلوا أنتم، وهنا امتناعه عن الصلاة على المدين لا يكون ذلك في الحكم على الميت، ولكن في حكم الدين الذي هو عليه، ويكون حثاً على أداء الديون قبل الوفاة، فإن توفي وعليه ديون فعلى ورثته المبادرة بسداد ديونه، وهذا أيضاً فيه مفاضلة كونه يصلي على هذا ولا يصلي على ذاك، فكذلك هنا يشهد على هذا أو لا يشهد على ذاك، ليس ما يشهد عليه في الصراحة والإباحة كالذي لا يشهد عليه.

إذاً: أقل مراتبه الكراهية.

أما لما جاء فقال له: (فإني لا أشهد على جور) والجور: الظلم، فهنا اشتد الأمر، والإجابة عليه ليست وافية، فإنهم قالوا: يكون للكراهية، ولكن الأسلوب من حيث هو يدل على النهي والنفي.

وهنا عطاء أحد الأولاد بعض المال، فهل هذا يصح أم لابد من التسوية بين الأبناء؟ سيأتي للمؤلف رحمه الله بعض النصوص في ذلك ويهمنا في حديث النعمان بن بشير أنه كان صغيراً؛ جاء في بعض الروايات ذكرها ابن عبد البر، قال: (فانطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله) وفي بعض الروايات: (يمشي بي) وجمعوا بأنه لصغره تارة يمشي وتارة يحمله كما يفعل الأب مع ولده الصغير، يحمله شيئاً ثم ينزله ويمشي معه شيئاً آخر، إذاً: أبوه كان قد استلم مكانه، وقبض الهبة من نفسه وهذا كما يقولون بالولاية.

ولو أن أجنبياً أهدى لطفل وأبوه موجود فأبوه يقبض عنه، أو كان يتيماً وله وصي فوصيه يقبض عنه؛ لأن الصغير دون البلوغ ليست له صلاحية القبض ولا القبول، فوليه يقبل الهدية ويقول: قبلتها لفلان، ويقبضها عنه ويحوزها لديه.

وتقدم الإشارة إلى كلام مالك رحمه الله تعالى بأن القبض يكون جائزاً إلا في النقدين، فلابد أن يعزل الهبة النقدية ويجعلها في يد أمين بعيدة عنه، مخافة أن يأتي الورثة فيما بعد ويقولون: هذا مال أبينا وهو تركة عنه.