قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة) الحديث متفق عليه] .
هذا من أحاديث الوكالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، وبعث العمال من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين، وكان العمال يجمعون الصدقة من أرباب الأموال الظاهرة، ويوزعونها على المحتاجين، أو يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون عليها، وقد بين العلماء أن هؤلاء العاملين يذهبون إلى أصحاب الماشية وبهيمة الأنعام على مياههم، فيجمعون ما عندهم من إبل أو بقر أو غنم، ولا يفرقون بين مجتمع، ولا يجمعون بين مفترق، ويحصون على الناس ما يملكون، فمن بلغ عنده النصاب أخذوا الزكاة منه، ونصاب الغنم أربعون، وإلى مائة وعشرين ففيها شاة، ومائة وواحد وعشرون فيها شاتان إلى مائتين، وهكذا في كل مائة شاة.
ونصاب الإبل أقله خمس وفيها شاة، وعشر فيها شاتان، وإذا بلغت خمسة وعشرين فبنت مخاض، فكان هؤلاء العمال إذا أتوا إلى الناس قبضوا منهم الزكاة بحسب ما لديهم من تعليمات، وأخذوها منهم بالوكالة عن ولي الأمر.
ومن غرائب ما حدث في مثل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث عامله إلى جهة الحناكية، فوجد عند رجل خمسةً وعشرين من الإبل، فقال:(زكاة إبلك بنت مخاض) ، وبنت المخاض هي: التي لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض بأختها، فقال الرجل: بنت مخاض! ماذا تجزي هذه وليست ظهراً فيركب، وليست ضرعاً فيحلب؟! ولكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لم تجب عليك فلا أستطيع أن آخذ أكثر من الواجب، فتشاح العامل مع صاحب الإبل، فقال العامل لصاحب الإبل: إن كنت مصراً فدونك النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فاذهب بها إليه، فإن قبلها قبضتها منك، فجاء مع العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: يا رسول الله! إن بنت مخاض في سبيل الله لا تجزي شيئاً، ولكن هذه ناقة كوماء (يعني: سمينة مثل كوم اللحم) خذها في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم:(أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم يا رسول الله! فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك!) فتناسلت إبله إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، حتى كان يخرج العشرات من رءوس الإبل في زكاته.
نرجع إلى تتمة الحديث: لما رجع عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إن خالد بن الوليد منع زكاته، والعباس أمسك زكاته) ، اشتكاهم عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:(أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس عتاده وأدراعه في سبيل الله) يعني: وهذا مال وقف لا زكاة فيه ما دام أنه في سبيل الله.
وأخذ منه الفقهاء أن الوقف إذا كان وقفاً خيرياً للفقراء والمساكين قربة لله فلا زكاة فيه؛ لأنه كله في سبيل الله، أما إذا كان وقفاً أهلياً -وهذا اصطلاح عند الفقهاء- بمعنى وقف على أشخاص معينين يقتسمون ريعه، فهنا ينظر لكل واحد على حدة، فمن أخذ من هذا الوقف ما فيه نصاب، ومكث عنده الحول، فإنه يزكي عليه لا على أنه وقف ولكن على أنه مال اكتسبه.