[الصلاة خلف الإمام القاعد]
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها -في قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض- قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) متفق عليه] .
حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، وهناك فرق بين: (مريض) ، وبين: (اشتكى) ، ففرق بين إنسان مريض وآخر رجله مكسورة، وفرق بين مريض وآخر يده مكسورة، فهذا يشتكي يده أو رجله أو صداع رأسه، ولكن هذا مريض، فالجسم كله مريض، وهذا يشعر لأول وهلة أن الحالتين متغايرتان.
قولها: (وهو مريض) المعروف أنه مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، وإذا كان الأمر كذلك فتكون رواية (جُحِش) متقدمة، ورواية (مرضه) متأخرة، لنكون على وعي من الأمر في الزمن والتاريخ للحالتين.
قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) .
قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه متعددة، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتكى، واشتد به الوجع، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وهذه القضية استوعبت الشيء الكثير، ففي بداية الأمر لما سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك قالت: (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، فإذا قام مقامك لا يملك نفسه من البكاء، مر عمر فليصل بالناس) .
قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
فقالت عائشة لـ حفصة: (قولي لرسول الله.
لأنه كلامها، فقالت حفصة: إن أبا بكر إذا قام لا يُسمع الناس من البكاء، مُر عمر.
فقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر) وهذه ناحية عجيبة، فلماذا عائشة تدفع حتى لا يصلي أبوها بالناس، وهذه أكبر منزلة؟ ونعلم جميعاً أنه لن يتقدم أحد على أبي بكر، وقد جرت عدة حوادث، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في خصومة فقال لـ بلال إذا تأخرت فأمر أبا بكر فليصل بالناس.
فـ أبو بكر مقدم، ومرة أخرى تأخر أبو بكر في مرض موته.
فقدموا عمر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار وقال: يأبى الله إلا أبا بكر.
فقال بلال: ما وجدت منك خيراً! وهنا حفصة لما قال لها صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف) ، قالت لـ عائشة: ما رأيت منك خيراً قط! وصواحب يوسف كن يخفين ما لا يبدين.
وهنا يأتي دور المتأمل الذي ينظر إلى الحقائق وما وراء الأحداث، فـ عائشة لا ترفض أن يقوم أبوها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأمر من السهولة إلى هذا الحد؟ إن أبا بكر بالنسبة لـ عائشة أبوها، فإذا بلَّغت عائشة الناس أن يصلي أبو بكر وكان فيهم ما فيهم فإن الشكوك والتهم تتوجه إلى عائشة من أجل أنه أبوها، فأرادت أن تبرئ نفسها وتبعد المسئولية عنها.
وقد قال عمر في السقيفة: ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا وآخرتنا، ألا نرتضيك لأمر دنيانا؟! فكان تقديمه للصلاة مقدمة وترشيحاً للخلافة بعده صلى الله عليه وسلم.
فأُمِر أبو بكر، وكان يصلي مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: فبينما أبو بكر يصلي بالناس، إذ وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، وفي بعض الروايات تفصيل آخر: (أراد أن يخرج فأغمي عليه، قال: ضعوا لي ماء في المخضب) ، فاغتسل فأراد أن يخرج فعجز، وكل مرة يقول: (أصلى الناس؟! فيقولون: لا.
وهم ينتظرونك) ، وأخيراً تأخر وأعاد الأمر لـ أبي بكر بالصلاة.
قالت: فوجد في نفسه خفة، فخرج يتهادى بين رجلين -قال ابن عباس للراوي: هل أخبرتك من الرجلان؟ قال: لا.
قال: هما علي والعباس - قالت: تخط قدماه، حتى أتى الصف، فشعر به الناس، فالتفت أبو بكر -وفي بعض الروايات: ولم يكن يلتفت- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بجانبه وهذه رواية للبخاري وهي مجملة، وللبخاري رواية أخرى مفصلة: (فجلس عن يساره) .
وهنا جلس عن يسار أبي بكر، وفي بعض الروايات أراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن: مكانك وهذا في صلاة أخرى، ولكن الأخيرة التي فيها حديث عائشة تبين أنه جلس عن يسار أبي بكر.
ولماذا نحتاج إلى معرفة مجلسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو يساره؟ لأن معرفة موقعه عليه الصلاة والسلام من أبي بكر -أثناء الصلاة- بين لنا الإمام من المأموم، وعليه تنبني مسائل وخلاف بين العلماء، وبعض العلماء استدل بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم على جواز ائتمام القائم بالقاعد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر صلى قاعداً وكان إماماً؛ لجلوسه عن يسار أبي بكر، ولأن موقف المأموم من الإمام عن اليمين، وموقف الإمام من المأموم عن اليسار إذا كان واحداً، فـ أبو بكر بدأ بالصلاة إماماً وانتهى فيها مأموماً، ولهذا تحرى الفقهاء مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أهو عن يمينه أو عن يساره.
فهنا لما تبين أنه صلى الله عليه وسلم جاء وجلس عن يسار أبي بكر، وفي حديث عائشة: (فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأتم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون -أو يقتدون- بصلاة أبي بكر) .
عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأن أبا بكر كان مؤتماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بـ أبي بكر، وجميع المؤتمين يأتمون بإمام قاعد.
ولهذا قالوا: لما كان في أول الأمر -لما جُحِش- أشار إليهم أن اجلسوا، وفي آخر الأمر لما قاموا خلفه وأبو بكر يقتدي به لم يأمرهم أن يجلسوا، ولم يأمرهم بالصلاة قعوداً خلفه وقد سئل أحمد -وهو ممن يبيح للمأموم أن يصلي قاعداً خلف الإمام القاعد- فقالوا له: لقد نسخ بأمر صلاته في آخر أمره! قال: لا؛ لأن فيه احتمالاً، وذلك أن أبا بكر بدأ الصلاة قائماً، فكان القيام ابتداءً، ومجيئه صلى الله عليه وسلم للصلاة قاعداً حدث بعد أن انعقد حكم القيام للجميع، ولا ينتقض بعد ذلك.
فـ أحمد يرى لمن صلى خلف إمام قاعد أن يقعد، والجمهور يرون عدم ذلك، ويقولون: إن الحالة الأخيرة ناسخة للحالة الأولى، والقيام مقتضى النص؛ لأن القيام واجب على كل مصل إلا لعذر، فإذا عذر الإمام بالقعود فما عذر المأمومين؟! والشارح وغيره يقولون: لقد أُمروا بذلك -أي: بمتابعة الإمام- والجمهور يقولون: قد جاء فعلٌ نَسَخَ هذا الأمر، أو أنه يكون للندب، أو للجواز، ولكن إذا جئنا إلى الأصل فكل من الإمام والمأموم مطالب بالقيام، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨] ، فإذا طرأ عذر لواحد منهما لا ينجر على الثاني، وبالله تعالى التوفيق.