قدم لنا المؤلف رحمه الله كلام ابن عباس: فيمن تكون به الجراحة في سبيل الله وخشي على نفسه الهلاك فماذا يفعل؟ ثم جاء بهذا الحديث الذي فيه أن الرجل هلك بالفعل، رجل شج في سبيل الله، فأجنب فسأل من بحضرته: ماذا أفعل هل أتيمم أم أغتسل؟ فقالوا: لابد من الغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:٦] ، فسمع الرجل الكلام واغتسل مع شجة الرأس، فتأثر الدماغ، فمات الرجل بسبب وصول الماء إلى الشجة في الدماغ، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذ لم يعلموا، إنما دواء العي السؤال!) ، وهذا هو الخطأ والخطر في تولي الفتيا بغير علم، لما سألهم هذا المسكين فتقدموا وتبرعوا بالفتوى، وقالوا: عليك أن تغتسل، وكان ذلك خطأ منهم، فبخطئهم قتلوه، ومن هنا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يتدافعون الفتوى كل المدافعة، ويخشون منها كل الخشية، ويقولون:(أجرأ الناس على الفتوى أجرأهم على النار) .
فهؤلاء بكلمة خرجت منهم قتلوا الرجل، واستحقوا الدعاء عليهم من رسول الله:(قتلوه قتلهم الله!) ، أي: مجازاةً على إفتائهم بغير علم، (هلّا سألوا إذا لم يعلموا) ، فالواجب على من لم يكن عنده علم، وسُئل عن شيء، أن لا يبادر إلى الفتوى فيه، وعليه أن يسأل من عنده علم في ذلك، ونحن نعلم قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما خرج إلى الشام ووصل إلى بلدة بين المدينة والشام، وأخبره الناس بأن الطاعون بالشام، فنظر وتحير هل يمضي إلى الشام وفيها الطاعون أم يرجع حتى يرتفع الطاعون عن الشام؟ ثم استشار الناس، فقال: يا ابن عباس! ادع لي شيوخ المهاجرين، فدعاهم، فسألهم فاختلفوا عليه، فقوم قالوا: نرى أن ترجع؛ لأن معك أصحاب رسول الله فلا تقدمهم على الطاعون فيهلكهم.
وقوم قالوا: إنك خرجت لأمر الله فتوكل على الله وامض، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، وقال لـ ابن عباس: ادع مشيخة الأنصار، فجاءوا فاختلفوا عليه أيضاً، فقال: قوموا عني، ثم قال: ادع لي مشيخة قريش، فدعاهم إليه فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى معك وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون، ولما اتفقوا مع عمر في ذلك ومعه بعض الناس الذين قالوا: لا تدخل عليهم، ترجح عنده ذلك، ثم أعلن وقال: إني مصبح على ظهر، أي: راجع، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً، وقال: يا أمير المؤمنين! عندي علم في ذلك، قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فحمد الله سبحانه وتعالى على إصابته للوجهة السليمة، بأنه أراد العودة، فأكد ذلك عنده، فجاء راجعاً.
الشاهد: أنه لما لم يكن عند عمر نص في الموضوع استشار وسأل، ولما اختلفوا عليه، وجاءت القرائن، وترجح عنده العودة، قرر أن يعود، فجاءه العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك، كما جاء عن ابن مسعود وغيره في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها، وقضى فيها بالصداق والعدة والميراث، ثم قام قائم وقال: لقد قضى بذلك رسول الله، فحمد الله على موافقته لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا رجل أصيب ولم يعلم الحكم، وسأل الحاضرين، فكلهم اجتهدوا وأخطئوا، وهذا لا يغتفر في الاجتهاد، فلا يقال لكل مجتهد: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد في هذا الموضوع، وإنما يكون الاجتهاد من أهل الخبرة، والذين لديهم خلفيات في النصوص، ويستطيعون أن يردوا الفرع إلى الأصل، وأن يقيسوه على غيره، أو يدخلوه ضمن قاعدة من قواعد الفقه، أما أن يأتي شخص بدأ يطلب العلم بالأمس، واليوم ينصب نفسه مفتياً ومجتهداً، فهذا يؤدب ولا يحق له ذلك، وإذا أخطأ فإنه يحاسب على خطئه، كما لو جاء إنسان ودخل كلية الطب وأخذ قلماً، ثم بعد ذلك أخذ حقيبة وأخذ أدوات وقام يعمل عمليات جراحية، فإذا أتلف شيئاً فإنه يغرمه؛ لأنه لم يتأهل بعد لأن يكون جراحاً يجري العمليات الجراحية.
وهكذا الفتوى في الدين إذا لم يكن مؤهلاً للفتوى وأفتى بخطأ فلا يقال: له أجر في اجتهاده؛ لأنه لم يتأهل.