قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت في مكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) متفق عليه] .
السقاية كانت من خصائص العباس، والرفادة كانت خصائص تختص بها بعض قبائل قريش، فكان العباس رضي الله تعالى عنه من أصحاب السقاية، والسقاية هي: أنهم كانوا يجمعون الماء -ماء زمزم- في أحواض كبيرة من الحجر المنحوت، وكانوا يجمعون طوال السنة من الزبيب ومن التمر ما يضعونه في هذا الماء الذي يجعلونه في تلك الأحواض قبل الشرب بزمن -بست ساعات أو بعشر ساعات، أو باثنتي عشرة ساعة، أو بأربع وعشرين ساعة، ما لم يتغير ويصير نبيذاً- وكان هذا يعطي ماء زمزم نوعاً من الحلاوة؛ لأن بعض الناس ربما كان ماء زمزم فيه ملوحة عنده أو فيه ثقل عليه، أو أن هذا نوع من إكرام الحجيج عندهم، فكانوا يتكلفون ذلك، واستمرت سقاية العباس على الماء والتمر والزبيب، وكان بعض المتبرعين الآخرين لهم سقايات تبرعوا بها، وربما وضعوا العسل في الماء، وربما جاءوا باللبن، فسأل رجل الفضل بن العباس وقال: ما بال الناس يضعون في الماء العسل واللبن، وأنتم تضعون التمر والزبيب أمن قلة عندكم أم من بخل؟ فقال: والله! يا ابن أخي! ليس هذا من قلة عندنا ولا من بخل، ولكن أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أسامة بن زيد وقال:(اسقوني، فقال العباس للفضل: اذهب وائت لرسول الله بماء من عند أمك، فقال: اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، فقال: يا رسول الله! إن هذا يضعون أيديهم فيه وهم كذا -أي: نأتي لك بماء نظيف من عند أم الفضل - فقال: اسقوني مما يشرب منه الناس، فسقاه مما يشرب منه الناس) وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه أتى إلى بئر زمزم وقال: (امتحوا، لولا أن يغلبكم الناس لوضعت هذا على عاتقي -يعني: حبل الدلو- ومتحت معكم) ولو فعل هذا لكان كل إنسان يريد أن يفعل مثلما فعل الرسول، وكم هي الدلاء التي ستكفي الناس على هذا؟! فسحبوا له بالدلو وأعطوه الدلو فشرب منه، وهناك جاء أن العباس سقاه مما يشرب الناس من تلك الأحواض.
إذاً: السقاية كانت من زمزم، وكان الأصل فيها للعباس، وكان يحلي ماء زمزم بالزبيب وبالتمر الذي كان يجمعه طوال العام، وكان آخرون ربما وضعوا مع زمزم العسل أو اللبن، أو يسقون اللبن خالصاً في ذلك اليوم، وكل ذلك كانوا يفعلونه إكراماً وتوسعة على الحجيج.
وحينما ينزل الناس لطواف الإفاضة كان بعضهم ربما ينزل في الليل، فكانت السقاية تحتاج إلى عمل مستمر، فإذا بات العباس في منى ربما تعطل عمل السقاية، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل عمل السقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم.
وهنا بحث للعلماء: هل من عمل سقايةً في مكة، مثل أن يأتي بالشراب، كشراب التوت أو شراب المانجو، أو جعل سقايةً كبيرةً ليسقي الناس منها، فهل له ذلك؟ الجواب: قالوا: إنه لا مانع من ذلك، فإذا وسع الله على إنسان وأخذ برميلاً كبيراً ووضعه في مكة حول زمزم، وكلما ينتهي برميل يأتي ببرميل آخر فيجوز له ذلك.
ونحن نرى الآن أنهم يوزعون الخبز ويوزعون الماء ويوزعون أشياء كثيرة، فلو أن إنساناً فعل ذلك خدمة للحجاج، أيحق له أن يستأذن في المبيت بمكة ليالي منى؟ وهل يؤذن له؟ وإذا بات بمكة تلك الليالي فهل يسقط عنه وجوب المبيت؟ الجواب: هناك من يقول: لا مانع قياساً على العباس، وهناك من يقول: لا يجوز؛ لأن هذه كانت وراثةً اختص بها العباس، وليس لأحد أن يستأذن بعد ذلك، ولكن أعتقد أن في هذا تحجيراً، وقد أشرنا إلى أنه يجوز لكل من كان له عمل في خدمة الحجاج بصفة عامة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى في مكة، أو الفران الذي يخبز الخبز في مكة ويهيئه ويرسله إلى أهل منى، أو من نزل بمكة كأصحاب الكهرباء، وأصحاب المياه، والطوارئ، والأعمال العامة التي يحتاجها الحجاج في مكة، فلو أن صاحب هذا العمل ترخص وبات بمكة من أجل العمل الذي يخص الحجاج فنقول له: لا بأس؛ لأنها خدمة عامة، ولم ينزل لخدمته الخاصة.
ويقولون: إن ابن عمر استأذنه رجل من أجل مال له بمكة؛ لأنهم كانوا يأتون للحج وللتجارة أيضاً، وكانت المزدلفة سوقاً، وكان هناك سوق عكاظ ومجنة، وكانوا يأتون من الشحر وعمان ومن غيرهما ليتاجروا، وكل هذه كانت أسواقاً للعرب، وإلى عهد قريب كان في منى شارع اسمه (سوق العرب) وهذه الأسواق كانت في الجاهلية، وكانوا يأتون بتجارات إلى الحج، فرجل قال لـ ابن عمر: أنا عندي مال بمكة، قال له: السنة المبيت بمنى، ولم يأذن له، فهنا نقول: لم يأذن له لإنها مصلحة خاصة به في تجارته، وأما إذا كانت في خدمة الحجاج فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.