[شرح حديث: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه)]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) رواه الخمسة، وأعله أحمد، وقواه الدارقطني] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في مباحث ما يمنع أو يباح في الصوم ما يتعلق بالقيء، والقيء: هو لفظ المعدة لما فيها من الطعام عن طريق الفم.
ومعنى: (ذرعه) أي: غلبه، تقول: ضقت بالأمر ذرعاً.
أي: غلبت عليه، فمن غلبه القيء، وخرج بدون رغبة منه ولا إرادة له وهو صائم فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، سواء كان هذا القيء قليلاً أو كثيراً، تغير أو لو لم يتغير.
والقلس: هو أن تخرج المعدة عند امتلائها شيئاً من الماء ملء الفم أو دون ذلك، فهذا يسمى قلساً، ويكون حديث عهد بأكله وبتناوله، أما القيء فيكون الطعام قد تغير لمكثه في المعدة، وكما قيل: إن المعدة تعمل آلياً وكيميائياً، آلياً بمعنى: أنها تتحرك بنفسها على الطعام كالرحا تطحنه، وكيميائياً ما يأتيها من إفراز من المرارة، فإنه يساعد على هضم الطعام، كالحمضيات مثلاً تساعد على إذابة الأجرام، فإذا ما عملت المعدة في الطعام ثم طرأ عليها عدم ارتياح لهذا الطعام، وقد يكون شيء طارئ يتقدمه مثل المغص أو القلق النفسي، أو أسباب أخرى، فلا تقبل الطعام، فتتقلص وتدفعه، فهذه الحالة إذا وقعت بالصائم فهو لم يتسبب فيها، ولم يكن له عمل فيها، ولا رغبة منه، فهذا لا قضاء عليه.
وقوله: (استقاء) الهمزة والسين والتاء -كما يقولون- للطلب، كما تقول: (أستغفر الله) أي: أطلب الله الغفران، (أستعين الله) : أطلب الله العون، (أستهدي الله) : أطلب من الله الهداية، (من استقاء) يعني هو الذي طلب القيء بنفسه، وذلك حينما يحس بازدحام الطعام، وإرهاق النفس، وعدم الارتياح، فإنه لا يريحه إلا إخراج الطعام من المعدة، ويسميه الأطباء القدامى (استفراغ) أي: افراغ المعدة مما ازدحم فيها، وقد تكون بالمعدة بعض الأشياء الصفراء والسوداء، وكانوا يعالجون الجسم على حسب تلك الطبائع، فإذا كان بالمعدة شيء من ذلك، وغالباً يكون قديماً، فيأتيها شيء من الطعام لا يوافقها، إما لدهنيات، إما لقلويات، إما لأشياء أخرى، فلا تستطيع المعدة أن تهضمها، ولا يستطيع هو أن يتحمل غثاء المعدة، فلا يجد له راحة إلا استفراغ بعض ما في المعدة.
فإذا استقاء هو -أي: حاول وطلب القيء- فإنه يبطل صومه وعليه القضاء، والاستقاء أو الاستفراغ يكون بأحد أمرين: إما بتعاطي ما طبيعته أنه يثير القيء، وإما بإدخال جرم إلى الحلق ويجعل عنده قدحاً فتلقي المعدة ما فيها، وإذا كان صائماً فلا يستطيع أن يتعاطى ما يثير القيء مثل الماء الدافئ الذي فيه قليل من الملح، أو نترات النحاس، أو بعض الأشياء التي يذكر الأطباء أنها تجعل الإنسان يستفرغ حالاً، فالصائم لا يتناول شيئاً من هذا؛ لأن تناوله إياه يفطره قبل أن يستقيء.
فإذا وضع إصبعه أو أدخل جرماً إلى حلقه فأثار المعدة فخرج القيء، ففي هذه الحالة يُبطل صومه، ويمسك بقية يومه، وعليه القضاء.
وهنا يتساءل الناس: إذا ذرعه القيء فلا قضاء، وإذا استقاء هو فعليه القضاء، والقضية واحدة وهي إخراج الطعام من المعدة، ذرعه أو استقاءه! فما الفرق بينهما؟ هل الفرق أنه تسبب أو لم يتسبب؟ هل الفرق أنه ليس له سبب إذا ذرعه القيء كما يقولون -مثلاً- في إخراج المني، لو نام واحتلم فلا شيء عليه؛ لأنه لم يتسبب في إخراجه، أما إذا باشر أو تسبب في إخراج المني يقظة فهناك الكلام في القضاء والكفارة وما يتعلق بهذا الباب؟ فيقولون: ليست العلة التسبب وعدم التسبب، ولكن العلة في طبيعة إخراج هذا الطعام؛ لأنه إذا ذرعه القيء فمعناه: أن المعدة هي التي تقلصت ودفعت الطعام عنها، فيكون دفعها قوياً، وتخرج الطعام على دفعات فلا ترجع منه شيئاً إليها.
أما إذا استقاء فكأنه يسحبه من عنده، وقد يخرج البعض وقد يرجع البعض؛ فلاحتمال رجوع بعض الطعام ممن يستقيء، ورجوع الطعام بعدما يصل إلى الحلق، ورجوعه إلى الجوف مرة أخرى كأنه أدخل الطعام من جديد، فيكون ذلك مفطراً.
إذاً: حكم القيء أنه إن ذرعه القيء وغلب عليه فلا قضاء عليه، وإن تسبب هو في إخراجه فإنه يكون عليه القضاء، والفرق بينهما في إيجاب القضاء في إحدى الحالتين وعدم إيجابه في الأخرى: هو طبيعة خروج الطعام من المعدة؛ لأن خروجه في حالة غلبته على الإنسان يخرج دفعات ولا يرجع منه شيء إلى المعدة، أما في حالة استعصائه ومحاولة إخراجه فإنه يغصب المعدة على الإخراج وهي لا تريد إخراج، فقد يخرج البعض ويرجع البعض إلى ما كان عليه، فيكون في ذلك صورة من أدخل طعاماً جديداً إلى المعدة، والله تعالى أعلم.