[الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر) ] .
وصل بنا الحديث في الكلام على حديث جابر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة، إلى أن صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما، قال: (اضطجع حتى الفجر) فلما طلع الفجر صلى الصبح بأذان وإقامة، وفي غير حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ وتبسم، فقيل له: (تبسمت يا رسول الله! في موطن لم تكن تتبسم فيه؟ قال: كنت سألت ربي أن يغفر لأمتي ويرحمها، فأعطاني ذلك إلا التبعات، فألححت على ربي -أي: في موقف عرفات- فلم يعطني، وقد أعطانيها الليلة) ، وفي بعض الروايات أنه قال له: (أما ما كان من ذنوب أمتك فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، ولكن التبعات) والتعبات: هي تبعة كل إنسان على الآخر، أي: حقوق العباد فيما بينهم، كأن يكون لإنسان مظلمة عند أخيه في مال، أو في دم، أو في عرض، أو في أي شيء، فهذه تسمى حقوق العباد فيما بينهم، وأما ما كان بين العبد وبين الله ولا تعلق لحق عبد فيه فهذه هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ويقولون: حق الله مبني على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحّة.
وهنا ذكر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب له، وجاء في بعض الروايات أنه قيل له: (إلا التبعات، فقال: يا رب! إنك قادر أن ترضي صاحب الحاجة، أو صاحب المظلمة عن حاجته أو عن مظلمته، وتغفر لصاحبه، فلم يعطه) ، وفي تلك الليلة استيقظ متبسماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى استجاب له وغفر لأمته حتى التبعات.
وهذه التبعات تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه) والعشية في اللغة من بعد العصر إلى غروب الشمس.
وفي قوله: (فقد غفرت لكم) اختلف العلماء هل يغفر كل شيء أو تستثنى التبعات؟ أكثر العلماء يقولون: كل شيء؛ لأنه لم يستثن شيئاً في هذا الحديث.
وبعض العلماء يقول: إلا التبعات، أي: التي لم يعطها صلى الله عليه وسلم، وقد أعطيها صلى الله عليه وسلم في ليلة المزدلفة.
وبالمناسبة ذكر العلماء سبب هذه المباهاة فقالوا: لما أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشراً جديداً كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:٧١-٧٢] فتساءل الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:٣٠-٣١] ، فقالوا: إن الملائكة تساءلوا لما سمعوا من المولى سبحانه قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:٣٠] ؛ لأنه كان في الأرض أجناس من الخلق قبل آدم، عمروها، ففسدوا فيها وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وكان إبليس ممن يقود الجيوش في سبيل الله، ورفع إلى مكانة عليا، وكان مع ملائكة السماء الدنيا؛ لكثرة جهاده وعبادته.
ولما كان الملائكة قد رأوا السلوك الذي كان من عمّار الأرض تساءلوا: (أتجعل فيها) يعني: مرة أخرى، فأعلمهم سبحانه وتعالى وقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ، ثم بين فضل آدم بتعليمه الأسماء، وعرضهم على الملائكة، فاعتذروا وقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣٢] ، ثم أنبأهم آدم بها، ولما ظهر فضله أمرهم الله أن يسجدوا له سجود تعظيم وتكريم، فإذا جاء يوم عرفة، واجتمع الخلائق من كل فج عميق يباهي الله بأهل الموقف الملائكة، كأنه يقول لهم: كنتم تقولون: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وهؤلاء هل هم مفسدون؟ ولم جاءوا؟ وماذا يريدون؟ فيقولون: (جاءوا شعثاً غبراً يريدون رحمتك، ويخشون عذابك) ، فهذه هي -كما يقولون- مناسبة أن الله سبحانه يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء.
وقوله سبحانه: (أفيضوا مغفوراً لكم) يقولون: هل غفر لهم كل شيء بدون استثناء، أو غفر لهم كل شيء إلا التبعات؟ قد تقدم الكلام على هذا، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله سبحانه قد تكرم على عباده، ومنحهم غفران التبعات أيضاً.
فهو سبحانه وتعالى يغفرها لمن ارتكبها، ويرضي أصحابها عنها.
وجاء في حديث آخر: (إن الله سبحانه وتعالى إذا كان يوم القيامة والناس في الموقف يرفع غرفاً يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا رب! لمن هذه الغرف؟ فيقول: لمن عفا عن مظلمة لأخيه، فكل من كانت له مظلمة عند أخيه يقول: يا رب! عفوت عنها) أي: لينال من تلك الغرف.
وفي الجملة: فإن الله سبحانه وتعالى تكرم على هذه الأمة بهذه المنح العامة، وتكرم عليها بأن جعلها شاهدة على الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، إلى آخر خصائص هذه الأمة على غيرها.