[استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك]
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) ] .
يقول جابر رضي الله عنه في إيراد حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خرجنا مع رسول الله إلى أن قال: ثم أتى البيت) ، والبيت أي: الكعبة، (واستلم الركن) والركن هو: الذي فيه الحجر الأسود، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الاستلام، والصورة الأكمل في الاستلام هو أن يضع الشخص كفيه على الحجر ويقبل الحجر من بين الكفين، وبعد ذلك يمسحه بيده ويقبل يده، أو يمسحه بواسطة ثوب أو عصا أو نحو ذلك، ويقبل تلك الواسطة، فإن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك فيشير ويمضي ولا يقبل يده.
وكذلك يستلم الركن اليماني إلا أن الركن اليماني ليس فيه تقبيل، والخلاف إنما هو إذا لم يتيسر له أن يستلمه، فهل يشير إليه بيده كما يشير إلى الحجر أو لا؟ البعض يرى الإشارة إليه إذا لم يتيسر له استلامه بيده.
يقول جابر رضي الله عنه (فرمل ثلاثا) ً الرمل هو: مشي سريع ببطء، بمعنى: أن يكون سريع الحركة بطيء الانتقال، يعني: أنه يمشي بخطىً متقاربة، في صورة الجري ولكن بدون إسراع، كما لو كان الإنسان معه طفل صغير والطفل يجري، فهو يريد أن يجري معه، لكن لا بخطىً واسعة بل بقدر جري الطفل، كان للرمل سبب في مشروعيته، وقد استمرت هذه المشروعية بعد انتفاء السبب، وبقي هذا العمل تسجيلاً لذلك السبب لما له من عظيم الأهمية، ولهذا دائماً نقول: إن جميع أعمال الحج هي تاريخ ومواعظ وإرشاد، وبيان لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، والسبب هو أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب معتمراً في عمرة الحديبية، وقد رأى صلى الله عليه وسلم قبلها رؤيا أنه يأتي البيت معتمراً، فأخبر أصحابه بذلك وخرج في ألف وأربعمائة رجل، فلما سمعت بهم قريش واجهتهم على حدود الحرم ومنعتهم من الدخول، وصدتهم عن البيت، ثم جرت المفاوضة بين الطرفين على أن يرجعوا من عامهم هذا، فتحللوا في مكانهم، وعظم ذلك على المسلمين، وتم الاتفاق على أنهم يأتون من عام قابل ويعتمرون وتخلي قريش لهم مكة ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بغير سلاح القتال، ولكن بسلاح المسافر وهو السيف في قرابه.
فخرج صلى الله عليه وسلم من العام الثاني الذي بعده على هذا الاتفاق، ولكنه أخذ معه سلاحاً كافياً، وأودعه قبل مكة، وأقام عليه الحراس، تخوفاً من غدر قريش، فلما دخلوا المطاف جلس سادة قريش على جبل أبي قبيس وما حوله ينظرون ماذا سيفعل المسلمون في عمرتهم، أيطوفون كما كانوا يطوفون بالسابق أم سيفعلون شيئاً جديداً جاء في الإسلام؟! فلما وصلوا إلى البيت أتاهم الشيطان وقال لهم: هذا محمد وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم، وهذه مؤامرة خطيرة؛ لأن المسلمين يعتبرون كالعزَّل، وهم بعيدون عن أي مدد، فلو انقضَّت عليهم قريش ولو بالحجارة لآذوهم، لأن أولئك فوق الجبل، وهؤلاء في بطن الوادي، وأهل مكة بكاملهم، وهؤلاء عددهم محدود.
فلما تآمروا على ذلك كان الوحي أسرع، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما تآمروا عليه، وهنا يقف كل عاقل ويتأمل كيف سيصنع المسلمون أمام هذه المؤامرة الغادرة؟ وليس هناك أحد قريب يمكن أن يسعفهم بعدد من الرجال والسلاح، ولكن يوجد هنا نور النبوة، وتوجد الحكمة النبوية الكريمة، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣-٤] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بواقع الحال، ليتعاونوا معه على مواجهة هذه الأزمة، وأمرهم وقال: ما دامت قريش تظن بكم الضعف والوهن فيجب أن تقلبوا عليهم فكرتهم، وعكس الضعف والوهن هي القوة، ولذا قال: (فأروهم منكم اليوم قوة) كي يخلف الظن عندهم، ويعلموا أن هؤلاء ليسوا بضعفاء وليس الوهن يعتريهم، فأمرهم بالاضطباع، وذلك بأن يجعلوا وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، وأن يرملوا، وتلك هي صورة المشمر المستعد القوي الفتي، فلما رأى المشركون ذلك، ورأوا المسلمين يطوفون وهم أشداء قالوا: أتقولون: إن هؤلاء قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر وهم ينقزون كالجن، والله! ما هم بأنس إنهم كالجن لا طاقة لنا بهؤلاء.
وبهذا أحبطت مؤامرة الشيطان مع أعوانه، وسلم المسلمون من الغدر الذي كان يحاك ضدهم جميعاً.
وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وأن يمشوا مشياً عادياً في الأربعة الأشواط الباقية، وكذلك يرملون من الحجر الأسود حين يطوفون بالكعبة إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، فيمشون مشياً عادياً يلتقطون أنفاسهم فيه، فإذا قيل: لماذا لم يرملوا في الأشواط الأربعة الباقية؟ الجواب: المتأمل في هذه الحالة يرى أنه لا يمكن أن الألف والأربعمائة سينزلون المطاف في لحظة واحدة، ويستلمون الركن في لحظة واحدة، ويسيرون معاً جميعاً في لحظة واحدة، لا يمكن هذا، بل سيأتون إلى المطاف أرسالاً، فإذا كانت الدفعة الأولى في الشوط الثاني ستكون الدفعة الثانية في الشوط الأول، وإذا كانت الدفعة الثالثة في الشوط الأول فستكون الدفعات التي سبقتها في الشوط الثالث أو الرابع وهكذا، فدخلت الأشواط الأربعة ضمن الثلاثة الأولى في صورة الهرولة، ولن يخلوا المطاف من جماعة تهرول في مدة الأشواط السبعة، وعلى هذا كانت مشروعية الرمل من أجل أن يعكسوا على المشركين خطتهم وتآمرهم مع الشيطان.
وبعد ذلك فتحت مكة، وصارت بلداً إسلامياً في إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة، ولما فتحها أقام عليها أميراً، وكان الحج في السنة العاشرة، ولما جاء صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد فتح مكة بسنتين ومكة آمنة ليس فيها عدو، والمسلمون آمنون مطمئنون، وقد انقضت دولة الشرك، وانتفى الإيذاء، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل في الأشواط الثلاثة أول ما قدم إلى مكة، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال هذه الهرولة، لقد هرولنا سابقاً ونحن في خوف، والآن نحن في أمن، وليس هناك خوف؟ يعني: أن العلة قد انتفت، والمعلول باقٍ.
فقال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وهرولنا معه، وفتحت مكة وجاء رسول الله فهرول في حجة الوداع وهرولنا معه، إذاً: فهي سنة باقية، ومثل هذا قد يقال في القوادح عند الأصوليين بالكسر وهو انتفاء العلة مع بقاء المشروع.
ولهذا صفة الهرولة باقية إلى اليوم.
والهرولة للرجال وليس للنساء فيها شيء، وكذا العاجز وكبير السن والذي لا يستطيع الهرولة ليس عليه في ذلك شيء، وإذا تركه الإنسان ليس عليه دم في تركه، وإذا كان هناك زحمة ولا يستطيع أن يهرول فعليه أن يتحرك حركة المهرول كما يقولون في رياضة الصباح: محلك سر، يرفع أرجله وينزلها وهو لا يتقدم إلى الأمام، فبقدر ما يستطيع يهرول، وبهذه المناسبة لا يكون الاضطباع في الإحرام إلا عند البيت لمن سيهرول، أما الذين يكشفون أكتافهم من الميقات فهذا خطأ، ومغاير للسنة، ويعرضون أنفسهم بذلك للحر وللبرد، حتى إن بعض الناس يتقشر جلده من شدة الحر وهو باق على هذه الحالة.
إذاً: محل الاضطباع والهرولة إنما يكون في الطواف الذي يعقبه سعي، فإذا كان هناك شخص حج فإذا طاف طواف القدوم، أو طاف طواف الإفاضة وليس عليه سعي فليس عليه هرولة؛ لأن الهرولة لا تكون إلا في الطواف الذي يعقبه سعي، سواء كان في طواف العمرة الذي يأتي بعده السعي للعمرة أو كان في طواف القدوم الذي يسعى بعده للحج تقديماً.
وها نحن في هذه الآونة وبعد أربعة عشر قرناً نهرول؛ لأننا بهذا العمل نحيي تلك الذكرى، ونتذكر موقف المسلمين في ذلك الوقت، وكيف صبروا وتحملوا، وكيف كانت حياتهم في سبيل الإسلام وفي نصرته، وكيف يواجه الناس مكائد الأعداء، لو تركنا ذلك لنسيناه ولانمحى من تاريخ المسلمين، ولكن إذا استمر الناس على إحيائه وعلى فعله فإنه بمثابة السجل الناطق على مدى الزمن على تلك الأحداث.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا بدأ عملاً واظب عليه ولو لم يكن واجباً، وقد يصير في حقه واجباً، وأما في حق الأمة فعلى حسب التشريع من وجوب أو ندب أو استحباب أو غير ذلك.
إذاً: (رمل ثلاثا) ً أي ثلاثة أشواط من السبعة، (ومشى أربعاً) أي مشى مشياً عادياً.
والله تعالى أعلم.