[أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) رواه مسلم] .
الجمعة -كما نعلم- من شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس أنها سنة مؤكدة، وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم الجمعة شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:٩-١٠] .
وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم) ، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه) ، وذلك أن في يوم الجمعة اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة، وفيها يتعرف أهل البلد بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع إجباري ومؤاخاة إلزامية.
ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة العظيمة، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في كل يوم جمعة، يعلم الخطيب الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح والإرشاد، ويعالج ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس.
وهنا يسوق المؤلف رحمه الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مقارناً بين الصلاة والخطبة: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي تطويل الخطبة على وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة إسماع المجتمعين آيات من كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى قدرته على التحكم في الكلام؛ لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل.
وقد جاء عن الصديق رضي الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا تكثر فينسي آخر الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك ما تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي أوله.
وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من كتاب الله وعلى الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع، وجمع أطرافه في كلمات موجزة فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة أم في غيرها، أنه إذا ما خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت الخطبة فإنه يستطيع أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات البين، وذكر الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر الساعين فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه.
أما إذا أخذ الخطيب موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع الأول، ثم انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع، ولم يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب متعددة، ودار حول الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع بنتيجة مستوفاة، والذي يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله ويوجزه ويعطيه للمستمع.
أما إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون أطول من الآخر الخطبة أم الصلاة؟ ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي خلاف ذلك، وكثيراً ما نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن الخطيب يراعي ما تعوده السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو اختصر ربما اتهموه بالعيِّ واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة، ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب السنة، وهو أن تكون الخطبة موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من أبرز ما يكون من قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك، فيعالجه بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.