[لماذا استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان عارية مضمونة ومن يعلى عارية مؤداة؟]
وهنا ننظر في جوبه صلى الله عليه وسلم وموقفه من إعارة دروع صفوان وإعارة دروع يعلى له، فهذه دروع وهذه دروع، وهذه إعارة وهذه إعارة، لكن واحداً منهم يقول له: (مؤداة) والثاني يقول له: (مضمونة) .
فهل نستطيع أن نتوسع ونقول -ما وجدت من نبه على هذه- إن الذي قال له: (مؤداة) هو مسلم صحابي جليل ومن واجبه أن يساهم في القتال والجهاد بنفسه وماله، فإذا كانت عنده دروع واحتاجها المسلمون فالواجب عليه أن يقدمها؟ وهنا يقول: هي لكم يا رسول الله! لأنه مسلم وهو مطالب بالجهاد، وقد توفرت عنده آلة قتال، وطلب منه الرسول إعارتها، فلا أقل من أن يعيرها ولكن بأخف الأمرين: (مؤداة) ؛ لأنها إذا تلف منها شيء فالرسول هو الذي استعارها، وهو استعار هذه الدروع للقتال، وهذا القتال هو في سبيل الله، فكيف يغرمهم ما أتلفوه في سبيل الله وهو مسلم، بل الواجب عليه أن يقاتل ويساهم.
إذاً: هذا واجب، ويشهد الله أن نفسي مستريحة له، لكن صفوان لو قال: لا أعيرك يا محمد! فله الحق؛ لأن هذا ماله، وهو على غير دين الإسلام، وسيقاتل بها النبي صلى الله عليه وسلم بني دينه، فلو قال: لن أعطيكم، فما بقي إلا الغصب، وما بقي إلا أن يقال: محمد يغتصب، ومحمد يسلب أموال الناس وغيرها من ألفاظ التشنيع، لكن يقابل موافقته وهو مشرك أن يعير المسلمين أدرعه ليستعينوا بها على قتال أهل دينه فهذا منه كافٍ جداً، وتلفها في الحرب ليس على صفوان منه شيء، سواء انتصروا أم انهزموا.
إذاً: من حق صفوان أن تكون عاريته مضمونة.
إذاً: على هذا لا خلاف ولا نزاع ولا ينبغي أن ينصب الخلاف في العارية هل هي مضمونة أو مؤداة، فلكل عارية ظروفها.
ولذا فإن من الفقهاء من توسط وقال: مضمونة إن اشترط ضمانها، وبعضهم يقول: ليست مضمونة ولو اشترط الضمان، وعبارة ابن قدامة في المغني: والعارية مضمونة وإن شُرط عدم ضمانها.
أي: هي بذاتها مضمونة.
ثم نرجع إلى صلب الموضوع، ما الذي جعل كلاً من الأول والثاني يتساءل هل هي مضمونة أو مؤداة؟ ألا يوحي هذا التساؤل إلى أن تعاملهم في العارية كان بحسب الشرط؟ الجواب: يوحي إلى أنه كان فيها قبل ذلك أحكام صادرة، وإلا لما سألوا، فلو كانت مؤداة قولاً واحداً والعرف عندهم فيها الأداء فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا، وإن كانت مضمونة والعرف عندهم فيها الضمان فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا؛ لأن العرف محكم، لكن أظن -والله تعالى أعلم- أنهم فيما بينهم كانت العارية عندهم على الأمرين، أي: بحسب الشرط، فإن اشترط ضمانها فهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها فهي مؤداة.
إذاًَ: نستطيع أن نجمل القول في العارية حتى ندخل في الباب الذي بعد هذا وهو باب الغصب؛ لأن مباحثه واسعة، وحتى لا يفوت علينا مثل الذي فات في موضوع العارية نقول: العارية من حيث الضمان وعدم الضمان مندوب إليها، فإذا استعرت شيئاً من حق أخيك المسلم فعليك أن ترفق به وأن ترده، والعارية هي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها من حق المال) ، فالإبل يعار فحلها ودلوها ومنيحتها وحلبها على الماء إلى غير ذلك، ومدلول يمنعون الماعون كما فسره ابن عباس القدر والقدوم والميزان إلى آخره.
فإذا كان مندوباً إليها فلا ينبغي أن تمنع أخاك شيئاً ينتفع به ولا مضرة عليك بذلك، ولكونها مندوبة يجب ردها في أي وقت طلبها صاحبها؛ لأنها في يد المستعير أمانة، ولكن يقولون: إلا إذا كان عند طلبه إياها يترتب على ردها مضرة للمستعير، ويمثلون على ذلك بلوح خشب فيما لو استعاره ووضعه في السفينة فجاء صاحبه في نصف البحر وقال: أعطني اللوح حقي، فلو أعطاه فسيغرق وينزل إلى قاع البحر، فلا يمكن أن يرد اللوح في هذا الوقت، بل على صاحبه أن يصبر حتى يخرج المستعير إلى البر ويخلع له لوحه ويعطيه إياه، وكذلك لو استعار سيارة من إنسان من المدينة النبوية إلى جدة وفي نصف الطريق قال له: أعطني سيارتي، فقال المستعير: وأنا أين أذهب؛ لأنه مقطوع ما عنده سيارة أخرى.
إذاً: عليه أن يردها، حين طلبها المعير ما لم يكن في ردها مضرة على المستعير.