للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحباب الدعاء بعد كل عبادة]

وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) وكذلك يكون الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار، وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة، وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا كيلو- استجاب له دعاءه.

وفي الآية الكريمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:١٢] كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة:١٣] .

إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله: (واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله! قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه) هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟ قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن) .

ولهذا جاء في حديث عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) انظر الموقف! السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري الدنيا والآخرة) ؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد ذلك شيء يطلبه.

وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:١٠٣] أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.