بشخصيته الخالدة، إذ ظلت أساليبه-مهما لانت ورقّت-مطبوعة بطوابع التصاعد والإيجاز والتركيز، تلك الطوابع التى تشيع فيه الدقة والوضوح والجمال، كما ظلت معانيه وأغراضه البدوية القديمة بجميع رواسبها الخيالية. وحقّا حدث فيه تجديد واسع ولكنه تجديد لا يفصله من تراثه، بل يتيح لهذا التراث أن يعاد خلقه بحسّ متحضر وذوق مرهف وعقل بصير يعرف كيف يفيد من كنوز الآداب والثقافات المترجمة وكيف يلائم بين ما يصوغه وبين بيئته المتحضرة. وقد أتاح ذلك لأغراض الشعر عند بشار أن تتطور تطورا قليلا أو كثيرا، بحيث يظل الاتصال قائما بين الشعر العباسى والشعر القديم.
وعجيب حقّا أن يستطيل بشار على العرب وعلى دينهم الحنيف وأن يقهره شعرهم، ويملك عليه ذات نفسه، ويسخره ليكون أداة من أدوات ازدهاره وبرهانا بيّنا على قوة شخصيته، تلك الشخصية التى يظل فيها الماضى الفنى ماثلا، مهما سقط على أصحابه من اختلافات فى الزمان والمكان ومهما وقع عليهم من مؤثرات حضارية وثقافية، ومهما ألحدوا فى العروبة والدين. وما من شك فى أن بشارا كان ملحدا زنديقا يكفر بالعرب، ومع ذلك اضطرّ اضطرارا حين عاش شعرهم أن يتمثّل أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم وخواطرهم مخترقا فى تمثله حجب الزمان والمكان مطأطئا من غروره. وليس معنى ذلك أنه انفصل عن عصره، فقد مضى يزاوج بين الماضى والحاضر، يتلقّى الماضى ويحياه، وأيضا يتلقّى الحاضر ويحياه، وبذلك وصل بين الحاضر والماضى برقيه العقلى وحياته الحضارية وصلا خصبا
وقد يكون من الغلو أن نزعم أن ذلك كان من عمل بشار وحده، فقد شركه فيه جميع شعراء عصره إلا نفرا قليلا، إذ مثل الشعر القديم أمامهم كالأم الغاذية، فكل شاعر يتغذى منه ما يقوّم به عمله، حتى إذا مرن عليه أخذ يوازن بين الغذاء القديم والغذاء الحديث. غذاء الثقافة والحضارة، وهى موازنة غدت كأنها طبيعة العصر، وكان مما أذكى جذوتها فى نفوس الشعراء أن شاعرا لم يكن يحظى بتقدير بين أقرانه إلا إذا حقق لنفسه حظّا من هذه الموازنة، ومما لا شك فيه أن حظ بشار منها كان موفورا، فإنه احتفظ للشعر بأصوله التقليدية، ومضى يطوّر فى أغراضه ومعانيه تطورا يختلف قلة وكثرة وسعة وعمقا.