للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا النحو صفّى علماء الرواية واللغة الشعر الجاهلىّ من شوائب كثيرة علقت به. وإن كنا لا ننكر فى الوقت نفسه أنهم تناولوا أشياء منه بالتنقيح، غير أن ذلك كان فى حدود ضيقة، كأن يبدلوا كلمة مكان كلمة، أيقيموا بعض الألفاظ على سنن لهجة قريش، فقد كانت تسقط على لسان الشعراء أحيانا أشياء من لهجاتهم القبلية، فكانوا يصلحونها، وقد يصلحون عروض بعض القصائد، ولكنهم بصفة عامة حافظوا على جوهر هذا الشعر محافظة تشهد لهم بالدقة، أنهم استطاعوا أن ينقلوا غير قليل منه إلى أجيالهم والأجيال التالية فى صورة تكاد تكون مطابقة تمام المطابقة لأصوله.

[٣ - التدوين]

مرّ بنا أن العرب لم يدونوا شعرهم فى الجاهلية، وأن ما يذكر من أخبار عن كتابة بعض شعرائهم لمقطوعات لهم، إن صح، فإنه لا يدل على أنهم فكروا فعلا فى تدوين أشعارهم، إنما هى قطع تكتب على زحل أو على حجر أو جلد لإنباء القبيلة أو بعض أفرادها بحادث. وقد نفينا أن يكونوا علقوا المعلقات فى الكعبة وكذلك رفضنا رواية حماد عن تدين النعمان بن المنذر لأشعار العرب وما مدح به هو وأهل بيته. ومن الأدلة على ذلك أننا لا نجد راويا ثقة يزعم أنه نقل عن قراطيس كانت مكتوبة فى الجاهلية، كما أننا لا نجد راويا ثقة يزعم أن شاعرا فى الجاهلية ألقى قصيدته من صحيفة مدونة، إنما كانوا ينشدون شعرهم إنشادا، ومن كان منهم يعدّ قصيدته فى حول أو أقل من حول كان يعدها فى نفسه، ويرددها فى ذاكرته، ثم ينشدها، ويحملها الناس عنه، ومن ثم قال الجاحظ: «وكل شئ للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام. . فما هو إلا أن يصرف (العربى) وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذى إليه يقصد، فتأتيه المعانى أرسالا (أفواجا) وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيّده على نفسه (١)».


(١) البيان والتبيين ٣/ ٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>