ويروى ابن الجراح أن شخصا وجد بيتا فى كتاب، أعجبه، فطلب من يجيزه وعزّ عليه الطلب، فلجأ إليها، وأنشدها البيت:
وما زال يشكو الحب حتى سمعته ... تنفّس من أحشائه أو تكلّما
فما لبثت أن قالت:
ويبكى فأبكى رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
وقد أشاع هؤلاء الجوارى الشواعر كثيرا من الظرف والرقة فى الغزل العباسى، إذ كن يعجبن باللمحة الدالة والخاطرة الدقيقة. وغيرهن من الجوارى كن يشاركنهم فى تذوق الشعر، وكن يكتبن ما يستحسنّ منه على عصائبهن ومراوحهن كما مرّ بنا فى الفصل الثانى. وكل ذلك عمل على ازدهار الغزل فى هذا العصر ازدهارا واسعا ونحن نقف عند شاعرين من شعرائه؛ أحدهما من أصحاب الغزل العفيف، وثانيهما من أصحاب الغزل الصريح، ولكن دون نبو على الذوق ودون ما يؤذى النفوس المهذبة، وهما العباس بن الأحنف وربيعة الرّقّى.
العباس بن الأحنف (١)
عربى من بنى حنيفة، كان آباؤه ينزلون فى خراسان، واتصلوا بالعباسيين ولمع منهم عمه حاجب إذ انتظم بين رجال الدولة، ومنشأ العباس ومرباه ببغداد، ويظهر أنه نشأ فى نعمة وثراء، جعلاه ينصرف عن شعر المديح الذى كان يجذب إليه عامة الشعراء طلبا للنوال والعطاء. وقد أخذ يعيش حياة مترفة، يختلط فيها بالشعراء من
(١) انظر فى العباس وأخباره وأشعاره ابن المعتز ص ٢٥٤ وابن قتيبة ص ٨٠٣ والأغانى (طبعة دار الكتب) ٨/ ٣٥٢ و ١٦/ ٣٤٣ - ٣٤٥ و (طبعة الساسى) ١٥/ ١٣٥ وتاريخ بغداد ١٢/ ١٢٧ وشذرات الذهب ١/ ٢٣٤ ووفيات الأعيان لابن خلكان ومعجم الأدباء ١٢/ ٤٠ وقد نشرت ديوانه وحققته عاتكة الخزرجى وطبعة بمطبعة دار الكتب المصرية.