ما قام معتدلا يهزّ قوامه ... إلا وبانت خجلة فى البان
وفى الأبيات انسياب مع جمال التصوير، بل مع التصوير المفاجئ، إذ نراه يخاطب البرق المختفى مع السحاب عن ديار صاحبته بأن سحائب الأجفان ودموع العيون حرية أن ترويها ويقول إنه حفظ صاحبته فأضاعته، وأطاعها فعصته، ويعقد صلة بين طرفها وطرف السنان، فكلاهما يصمى ويقتل، ويذكر أن قوام صاحبته لا يشبه قوام شجر البان فى اعتداله فحسب، بل إنه حين يبصره شجر البان يسرى فيه خجل وحياء شديد لحسن قوامه بالقياس إليه وجمال استوائه ومن أبياته السائرة قوله من قصيدة:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصّبابة إلا من يعانيها
ولن نستطيع أن نمضى فى عرض أشعار الغزلين لكثرتهم ونكتفى بالحديث عن ابن المعلم والحاجرى والتلعفرى، إذ هم أهم من نظم الغزل فى العصر، وقد استطاعوا النفوذ فيه إلى ضرب جديد من الشعر الوجدانى يكتظ بالشوق والوجد والحب المبرّح الذى يستأثر بالقلوب والأفئدة.
ابن المعلم (١)
هو أبو الغنائم نجم الدين محمد بن على المعروف بابن المعلم، ولد بقرية الهرث من أعمال واسط جنوبى العراق سنة ٥٠١ وتوفى بها سنه ٥٩٢ واستيقظت موهبته الشعرية مبكرة، فقصد بشعره حكام بغداد وبها اصطدم بشاعرها سبط ابن التعاويذى بعامل التنافس.
وكان كلما ألم ببغداد لا يلبث أن يفارقها إلى مسقط رأسه، وفيه يقول العماد الأصبهانى فى الخريدة:«متقدم الهرث شعره الديباج الملمّع المعلم، طرازه المعنّى الممنّع المحكم، فلفظه السّوار ومعناه المعصم. . كلامه حلو حال، عال غال، صفو من الرّنق خال. . فأين مهيار من أسلوبه! لو عاش شرب من كوبه». ويقول ابن خلكان:«كان شاعرا رقيق الشعر لطيف حاشية الطبع يكاد شعره يذوب من رقته. . وأكثر القول فى الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعانى، يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصبابة والغرام، فعلق بالقلوب واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون». وأتاحت له رقة شعره الوجدانى صلة وثقى بينه وبين أصحاب الشيخ أحمد
(١) انظر فى ترجمة ابن المعلم وأشعاره الخريدة (قسم العراق ٤/ ٢/٤٣٠ وابن خلكان ٥/ ٥ والوافى بالوفيات ٤/ ١٦٥ وعبر الذهبى ٤/ ٢٧٦ والشذرات ٤/ ٣١٠ والنجوم الزاهرة ٦/ ١٤٠ وانظر ص ١٠٢.