للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استولى عليه استيلاء بحكم ما أتيح للمجتمع فيهما من ترف ومن حرية. على أنه ينبغى أن لا نبالغ فى تصور ذلك فنظن أن الشعراء تمادوا فى صراحتهم إلى حد الإفحاش، فالصراحة شئ والفحش شئ آخر. ومن المؤكد أن غزل مكة عند عمر بن أبى ربيعة وأضرابه أقل صراحة وحرية من غزل المدينة عند الأحوص وأقرانه، إذ كانت موجة اللهو فى المدينة أكثر حدّة. وينبغى أن نلاحظ أن هذا الغزل الصريح عند الأحوص وعمر ونظرائهما كان يرافقه غزل عفيف عند الفقهاء والزهاد من أمثال عروة بن أذينة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة فى المدينة وعبد الرحمن بن أبى عمار الجشمى فى مكة، وغزلهم جميعا يمتاز بالنقاء والطهارة وسمو العاطفة.

ومما لا شك فيه أنه كانت تسقط من غناء المدينتين الكبيرتين بالحجاز وما شاع فيهما من غزل آثار مختلفة فى بقية مدن الحجاز، فمن ذلك ما يروى عن العرجى الشاعر المكى من أنه كان ينزل كثيرا فى أودية الطائف، وكان يلزمه مغن يسمى الفند (١). ويلقانا هناك شاعران كلفا بالغزل هما محمد بن عبد الله النميرى ويزيد بن ضبّة. ويذكر أبو الفرج أن المغنين فى وادى القرى كانوا يفدون على مكة يتعلمون فيها الضرب والغناء والعزف، ومن أشهرهم عمر (٢) الوادى.

[٢ - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال]

إذا كنا لاحظنا تحضر مدن الحجاز وخاصة المدينة ومكة فإن نجدا وبوادى الحجاز قلما سقط فيهما من الحضارة شئ ذو بال، إذ استمرت القبائل فيهما تعيش على الرّعى وطلب الكلأ، فهى تعيش-كأسلافها فى الجاهلية-معيشة متبدية فيها غير قليل من الشّظف.

وفى هذه المعيشة ظلت المنافسات القبلية على المراعى، وظل تربّص القبائل


(١) أغانى ١/ ٣٩٣.
(٢) أغانى ٧/ ٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>